الرأي

وغادرنا شيخ الثقافة

زيد الفضيل
لو كانت الثقافة مهنة فلن يكون لها شيخ أفضل من المغفور له بإذن الله الشيخ عبدالمقصود خوجة الذي غادرنا قبل أيام إلى دار الحق، فلحق بأولئك الرعيل الأجل من الأدباء والمثقفين وغيرهم من الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا.

غادرنا صاحب الاثنينية الأشهر في عالم المعرفة على الصعيدين الوطني والعربي، ذلك الذي نذر جزءا كبيرا من وقته وجهده وماله لخدمة المثقفين والعلماء، فقام بتكريمهم أجل تكريم، ولم يقتصر على يوم الحفل وما يحاطون فيه من بهاء، بل يبتدئ من لحظة شروعهم بالسفر إلى حيث مقر الاثنينية بجدة، فيتكفل بهم فريق متخصص مهني، ويتم حجز تذاكرهم على أعلى الدرجات، واستقبالهم نجوما في مطار الملك عبدالعزيز، ثم يكون انتقالهم إلى حيث سكنهم في فندق فخيم، تصاحبهم سيارة فخيمة أيضا طوال مدة بقائهم، وكأنهم وفود دبلوماسية عالية المستوى، وهو أمر لم يعهد المثقف الحقيقي العضوي كما يقول «قرامشي» مثله في كثير من الأحيان لسببين، ثانيهما، لأنه لا يلتفت لذلك ابتداء، وأما أولهما فيعود إلى عدم اهتمام المؤسسات بهم كشخصيات وازنة وفاعلة في المجتمع، لا سيما وأن من يدير أغلب هذه المؤسسات ليسوا مثقفين وإنما موظفون، وشتان بين الأمرين.

لقد كان عبدالمقصود خوجة مثقفا قبل أن يكون غيره، وأزعم أنه كان يرى أباه الشيخ الأديب محمد سعيد خوجة فيهم، ليأتي تكريمه لهم بما يجب ويستحقونه، تكريما لوالده يرحمه الله الذي غادره وغادرنا مبكرا، وكان أحد رجالات جيل الرواد في المملكة العربية السعودية بدوره الفاعل في جريدة «أم القرى» حال توليه لها، ودوره في جمع شتات الأدباء في وقته عبر كتاب «وحي الصحراء» مع الأستاذ عبدالله بلخير، وقدم لهم الأديب المصري الكبير محمد حسين هيكل باشا، ناهيك عن جمعه لأدباء ومثقفي العالم الإسلامي في جلسة التعارف الشهيرة بالمشاعر المقدسة حال موسم الحج، كل ذلك كان ماثلا أمام ناظري ابنه عبدالمقصود وهو يكرم أفراد قبيلة أبيه وأقران أبيه من جمهرة العلماء والأدباء والمثقفين، الذين سخر لهم جاهه وماله قدر استطاعته فكان أن جمع شتات أفكارهم عبر شخصيات أكاديمية وثقافية كبيرة كالراحل حسين الغريبي والراحل الأستاذ الدكتور عاصم حمدان وآخرين، علاوة على أبناء وأقرباء الأدباء الراحلين من جيل الرواد وغيرهم، كحمزة شحاتة ومحمد سعيد العامودي ومحمد حسن عواد وأحمد قنديل وآخرين.

وهو ما ندين له كباحثين إلى اليوم وغد، لما قام به من دور أصيل في حفظ ذلك الموروث وجمع شتاته، ولعمري فإن ذلك الجهد مما تقوم به مؤسسات الدولة الكبرى، لكنه تصدى له بحسه الوطني وأجاد فيه. ولذلك أرجو من سمو وزير الثقافة أن يتبنى ذلك الجهد ويحرص على استمرار مؤسسة الاثنينية التي لم تعد إرثا شخصيا، بل باتت إرثا وطنيا يستحق الحفاظ عليه واستمراره.

في صالونه الشهير «الاثنينية» يمكن للزائر أن يشهد خليطا جميلا من الحضور المتنوع، فتجد نماذج من النخبة التجارية من رجال الأعمال وأصحاب الكيانات الاقتصادية الكبرى، ونماذج أخرى من النخبة الإدارية من كبار رجال وموظفي الدولة وكبار التنفيذيين في القطاع الخاص، وحتما سيشهد الزائر شخصيات كثيرة من النخبة المثقفة على مختلف اهتماماتهم المعرفية، علاوة على عديد من السفراء والقناصل من مختلف الدول العربية والإسلامية والغربية الذين كانوا شغوفين بحضور جلسات المنتدى.

وهل هناك صالون يمكن أن تجتمع فيه النخب كهذا الصالون، ويكون نموذجا يفتخر به الوطن بوجه عام؟ من أجل ذلك كان حرص عديد من أصحاب السمو الملكي على حضور الصالون المميز والمشاركة فيه، وهو ما أعطى الشيخ عبدالمقصود دورا مهما في حياته لاسيما في ربط المثقفين برجال الدولة، فكان بمثابة واسطة العقد بين المثقفين جملة وولي الأمر في وقته، علاوة على أصحاب السمو الملكي في مختلف مناصبهم، وصولا إلى أصحاب المعالي وزراء الإعلام ثم وزراء الثقافة والإعلام.

أشير ختاما إلى أن المشهد الثقافي بالمملكة العربية السعودية قد عرف بمجالسه التي اشتهرت بأيام الأسبوع، فنقول أحدية د. راشد المبارك بالرياض، وأحدية د. عبدالله نصيف بجدة، واثنينية الشيخ عثمان الصالح بالرياض، واثنينية الشيخ عبدالمقصود خوجة بجدة، وهكذا وصولا إلى خميسية الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي الشهيرة بالرياض، وخميسية الأستاذ محمد عمر العامودي التي أشرت إليها في المقال الفائت بجدة، ويظهر لي أن ذلك خصيصة تميز بها المشهد الثقافي السعودي وليس له مثيل في عالمنا العربي والله أعلم.

zash113@