الرأي

استراتيجيات هجومية في الخصومة الفكرية

منى عبدالفتاح
لا يخلو زمان منذ أن بدأ الإنسان يعلن عن أفكاره، من المشاحنات والنقاش الذي يصل إلى درجة الملاسنات النارية، خاصة إذا كان النقاش يدور بين شخصين أو فئتين أو تيارين بخلفيات فكرية أو انتماءات مختلفة. وعلى مدى التاريخ الفكري تتخذ هذه الحوارات الساخنة مواقف متصلبة، وإصرارا على الرأي حتى لو ثبتت مجافاته للمنطق. ثم تتسع الدائرة لتشمل أنصارا من الطرفين لتتحول الخصومة بين جماعات وتكتلات كل منها ينطلق من موقفه وقاعدته التي يستند عليها وتتحول بذلك إلى فجور في الخصومة وعدم احترام لاختلاف الآخر في الرأي. سمعنا كثيرا عن الشعراء الهجائيين في صدر التاريخ وقرأنا أشعارهم التي تهب منها رياح الخصومة المضطرمة والشقاق. وما يدور الآن على الساحات الفكرية والثقافية يرجعنا قرونا إلى الوراء. وهذا النوع من الخصومة والمعارك المعنوية، لا يقتصر على شخص أو فئة معينة ولا هي ظاهرة بصفتها منتجا بشريا صرفا، بل هو نوع متشظ من عدة عوامل مرئية وغير مرئية وقد يأتي في شكل إحساس أو مشاعر تنتاب شخصا ما لتسرقه من لحظته التي يعيشها أيا كانت طبيعتها. وهو كذلك ليس مقتصرا على الشخص سريع الغضب المتجهم والعدواني، إنه سلوك يتجاوز الكل وأصبح يتجلى في حملة العقول والأقلام معا، سواء كانوا كتابا أو مدونين أو غيرهم من عابري الانترنت والمقيمين في وسائل التواصل الاجتماعي. وهم كذلك بعض ممن يطلون على قراء الصحف أو متصفحي الانترنت ليحولوا الكلمة المكتوبة إلى كائن حي خارج من رحم الحقيقة متجاوزا كل الإشارات الحمراء، ليسمع الآخر آراء قد يقبلها أو يرفضها ولكنها لا تتجاوز إطار الرفض والقبول المعرفي بأي حال من الأحوال. ولكنه شعور يتحكم في الشخص بأنه مصيب على الدوام وغيره هم من على خطأ، وهذا مما يشرح بأن له أبعادا سيكولوجية، ومما يقترب أحيانا من جنون العظمة والتهويل الأعمى الذي يزجيه الشخص على نفسه. ولا نغفل طبعا من أن معظم هذه المشاحنات تبدأ بقضايا حول الشأن العام ولكن سرعان ما تتحول إلى ملاسنات شخصية تتخذ عدة استراتيجيات هجومية وأخرى دفاعية ومن ثم تتحول إلى هجوم وهجوم مضاد، بحجج وبراهين لا يملك صحتها من عدمها سوى الطرفين المعنيين أو بعض شهود على الأحداث مثار الخلاف. ليس هذا فحسب بل يذهب الأمر بعيدا حينما ينصب البعض أنفسهم مدافعين مستميتين عن أحد الأطراف المتخاصمة ويتحول الهجوم الفردي إلى جماعات وتكتلات لتتدهور الخصومة إلى خصومة أشد ويكون بذلك من الصعب علاجها موضعا وموضوعا. إنه لمن المؤسف أن نجد كثيرا من العبارات التي ترد في سياق مثل هذه الكتابات شديدة القدح تحمل في طياتها من القسوة الشيء الكثير، ولا يقتصر الأمر عند ذلك بل يتعداه إلى إسقاط صفات أخلاقية ودونية على الآخر، فهي إن عبرت لا تعبر إلا عن الكيفية التي يمكن أن يطل بها «الكاتب» مصورا مشهدا رديئا من العلاقات الإنسانية بين أصحاب القلم، في حين أن الكاتب والقراء معا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى أن يتشاركوا عبر هذه الإطلالات فيما يهمهم ويشغلهم أو يتسامروا معا فكريا، هذا بقلمه وذاك بالنظرة الثاقبة الواثقة لدعم حالات القراءة المتكاملة. وبما أن كثيرا من الخصومات تنبئ عن إساءة فهم للأمور محل الخلاف في كثير من الأحيان، وكثيرا منها تخفى أسبابها الحقيقية فإنه في الغالب يصعب تفادي هذا الاختلاف الذي من المفترض ألا يفسد للود قضية ولكنه بدلا عن ذلك يولد الخصومة. ولذا فإن فئة مثل حاملي مشعل النور والفكر، فهم مطالبون بإيجاد آلية للتصدي لمسألة الفجور في الخصومة حتى لا نشهد حقبة زمنية جديدة من التمزق على مستويات الفكر المختلفة. mona.a@makkahnp.com