«حرب استنزاف» طويلة الأمد في أوكرانيا
الأربعاء / 9 / ذو القعدة / 1443 هـ - 19:10 - الأربعاء 8 يونيو 2022 19:10
يبدو أن قادة حلف شمال الأطلسي باتوا مقتنعين تماما بضرورة الاستعداد لما يصفونه بحرب استنزاف طويلة المدى في أوكرانيا، حيث نوه الأمين العام للحلف - بعد لقائه مع الرئيس الأمريكي جو بايدن مؤخرا - إلى ضرورة استعداد الغرب بهذه الحرب، وقال ستولتنبرغ «علينا أن نستعد على المدى البعيد... لأن ما نراه أن هذه الحرب باتت حرب استنزاف».
من نافل القول أن أحد الدوافع الأساسية لهذا الواقع الدولي المأزوم هو أن الغرب بات ينظر إلى ما يدور في أوكرانيا من منظور محدد قائم على ضرورة هزيمة روسيا، أو ما وصفه وزير الدفاع الأمريكي بأن الولايات المتحدة تريد أن ترى روسيا ضعيفة إلى الحد الذي لا يمكنها فيه شن أي عملية عسكرية مماثلة في المستقبل، وفي ضوء الدلائل التي تؤكد صعوبة تحقق ذلك عمليا، سواء في ضوء تفاوت القدرات العسكرية للطرفين، الأوكراني والروسي، أو في ضوء طبيعة وشخصية الرئيس بوتين، فإن سيناريو حرب الاستنزاف طويلة الأمد هو بالفعل السيناريو الأقرب للتحقق عمليا، كما قال المسؤول الأطلسي الأول.
المؤكد أن أي تحليل للمشهد العسكري الراهن في أوكرانيا يوضح أن تحقيق انتصار عسكري أوكراني على الجيش الروسي مسألة مستبعدة إلى حد كبير، وبالتالي يصبح الحديث عن استعادة الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها القوات الروسية مسألة مستبعدة كذلك، لذا فإن أقرب التصورات التي يتمناها الغرب هو أن يتوقف نزيف الخسائر وتتمكن القوات الأوكرانية من وقف زحف الجيش الروسي على باقي مدن البلاد.
ما سبق يعني أن مناقشة تحقيق أي طرف في حرب أوكرانيا انتصار عسكري حاسم مسألة غير مجدية، لاعتبارات معقدة منها أن معايير النصر والخسارة في هذه الحالة ليست دقيقة، بل مرهونة بحسابات كل طرف وأهدافه؛ فعلى سبيل المثال قد يرى الغرب أن تعطيل الآلة العسكرية الروسية عن تحقيق أهدافها وتوريطها في خسائر بشرية ومادية فادحة يمثل انتصارا استراتيجيا مهما، وفي المقابل يرى آخرون أن فشل روسيا في تحقيق هدف إزاحة الرئيس فولوديمير زيلينسكي عن السلطة في أوكرانيا وإخفاقها في الاستيلاء على العاصمة كييف واضطرارها لتغيير استراتيجيتها العسكرية وحصرها في الاستيلاء على منطقة دونباس هو انتصار استراتيجي كبير لأوكرانيا، وربما يسهم ذلك في تفسير حديث وزارة الدفاع البريطانية عن إمكانية خسارة روسيا الحرب في أوكرانيا.
من الناحية الفعلية لا يمكن القول بأن هناك غالبا ومغلوبا، بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، في هذه الحرب، التي طالت آثارها الجميع بمن فيهم دول العالم التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وتكفي الإشارة إلى أن الدمار الحاصل في أوكرانيا، التي خسرت أكثر من ثلث بنيتها التحتية وتواجه عجزا ماليا يقدر بنحو 5 مليارات دولار شهريا.
والمعضلة الحقيقية أنه لا أحد يستطيع توقع نهاية لهذه الحرب، فالغرب يستعد لحرب استنزاف طويلة الأمد كما سبقت الإشارة، والرئيس بوتين عازم على المضي في انتزاع جميع أراضي منطقة دونباس الناطقة باللغة الروسية، ولا يبدو في عجلة من أمره ولا تزال أهدافه النهائية مجهولة للجميع!
بلا شك أن سيناريو الاستنزاف قد لا يكون هدفا أطلسيا بقدر ما هو نتيجة تمليها ظروف هذه الحرب، فالدعم العسكري الكبير والمتواصل لأوكرانيا يسهم في تعزيز موقفها الميداني، وإطالة أمد الحرب بشكل أو بآخر، لاسيما أن المسألة ترتبط ارتباطا عضويا بمصير أوكرانيا ووجودها كدولة ذات سيادة، وعلى الجانب الآخر فإن الجيش الروسي بات مكشوفا بشكل كبير للاستخبارات الغربية، حيث تتكاثر التقارير عن أداء قواته ومستوى التدريب والجاهزية والتنسيق بين القادة، ناهيك عن ضعف المعلومات الاستخباراتية الذي تسبب في عدم بناء توقعات دقيقة لمقاومة الجيش الأوكراني، ناهيك عن عدم بناء تقديرات دقيقة لحجم الدعم العسكري الغربي للجيش الأوكراني، وهو ما تسبب في إرباك حسابات الكرملين. فعلى سبيل المثال، تشير بعض التقارير الغربية إلى أن ضحايا الجيش الروسي بعد مائة يوم من حرب أوكرانيا تفوق خسائره البشرية طيلة سنوات الغزو السوفيتي لأفغانستان.
وهناك عامل ثالث ربما يكون صاحب التأثير الأهم في تغذية سيناريو الاستمرار، وهو رغبة الولايات المتحدة ومعظم حلفائها الأوروبيين في استنزاف قوة روسيا العسكرية والاقتصادية لدرجة تنأى بها عن التفكير مجددا في أي عمل عسكري خارج حدودها.
ثمة عامل آخر يدفع باتجاه إطالة أمد حرب أوكرانيا، وهو تحول الصراع إلى روسي - غربي، حيث باتت موسكو تراهن على تأثير نقص إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها ووقوع الحكومات الغربية تحت ضغوط الرأي العام، فضلا عن احتمالية حدوث انقسامات في صفوف الغرب بسبب ارتفاع كلفتها، بينما تراهن عواصم الغرب على وقوع اضطرابات داخل روسيا بسبب العقوبات الاقتصادية المرتبطة بالحرب، ما قد ينتهي بسقوط الرئيس بوتين وتغيير النظام الحاكم ومن ثم الانسحاب من أوكرانيا كما حدث في أفغانستان، ولكن هذا الأمر يبدو كسيناريو حالم لأن الأمر يرتبط بسيادة روسيا واعتبارات قومية أخرى، ناهيك عن صعوبة القبول بإذلال الجيش الروسي.
الموضوعية تقتضي القول إن روسيا تتعامل مع تصرفات الغرب في أزمة أوكرانيا بهدوء وعقلانية وحذر بالغ، والدافع الأساسي لذلك هو حرصها على تفادي الاستدراج لحرب واسعة، أو استفزازها لاستخدام أسلحة أكثر دمارا بشكل قد يتسبب في حدوث تحولات في مواقف العالم تجاهها، علاوة على أن موسكو تدرك أن إطالة أمد الحرب ليس في مصلحة الغرب تماما في ظل نقص الإمدادات الغذائية وارتفاع أسعار مواد الطاقة ومستويات التضخم القياسية التي يصعب تحملها على المديين البعيد والمتوسط، وهو ما ينذر بحدوث خلاف أوروبي - أمريكي حول ضرورة إنهاء هذه الحرب بأي شكل.
ومن ثم فإن إسدال الستار على الأزمة يبدو مرتبطا بموقف الغرب، والولايات المتحدة تحديدا، حيث يتطلب الأمر بناء مقاربة دبلوماسية واقعية تسهم في التوصل إلى تسوية تنهي هذه الحرب.
الخلاصة في ظل معاناة العالم الذي يشارك في دفع فاتورة هذه الحرب، أن الموضوع كله يفوق حسابات الخسائر الروسية أو الغربية، فكل دول العالم تقريبا تتحمل أعباء هذه الأزمة، التي عجلّت بظهور أسس نظام عالمي جديد، وسيناريو الاستنزاف قد يفجر أزمات خطيرة على الصعد كافة، وقد يتسبب في اندلاع أزمات أخرى وتوسيع دائرة المعاناة والتوترات عالميا، ما ينذر بعواقب خطيرة لن يكون أحد بمنأى عنها سواء في الغرب أو الشرق.
drsalemalketbi@
من نافل القول أن أحد الدوافع الأساسية لهذا الواقع الدولي المأزوم هو أن الغرب بات ينظر إلى ما يدور في أوكرانيا من منظور محدد قائم على ضرورة هزيمة روسيا، أو ما وصفه وزير الدفاع الأمريكي بأن الولايات المتحدة تريد أن ترى روسيا ضعيفة إلى الحد الذي لا يمكنها فيه شن أي عملية عسكرية مماثلة في المستقبل، وفي ضوء الدلائل التي تؤكد صعوبة تحقق ذلك عمليا، سواء في ضوء تفاوت القدرات العسكرية للطرفين، الأوكراني والروسي، أو في ضوء طبيعة وشخصية الرئيس بوتين، فإن سيناريو حرب الاستنزاف طويلة الأمد هو بالفعل السيناريو الأقرب للتحقق عمليا، كما قال المسؤول الأطلسي الأول.
المؤكد أن أي تحليل للمشهد العسكري الراهن في أوكرانيا يوضح أن تحقيق انتصار عسكري أوكراني على الجيش الروسي مسألة مستبعدة إلى حد كبير، وبالتالي يصبح الحديث عن استعادة الأراضي الأوكرانية التي استولت عليها القوات الروسية مسألة مستبعدة كذلك، لذا فإن أقرب التصورات التي يتمناها الغرب هو أن يتوقف نزيف الخسائر وتتمكن القوات الأوكرانية من وقف زحف الجيش الروسي على باقي مدن البلاد.
ما سبق يعني أن مناقشة تحقيق أي طرف في حرب أوكرانيا انتصار عسكري حاسم مسألة غير مجدية، لاعتبارات معقدة منها أن معايير النصر والخسارة في هذه الحالة ليست دقيقة، بل مرهونة بحسابات كل طرف وأهدافه؛ فعلى سبيل المثال قد يرى الغرب أن تعطيل الآلة العسكرية الروسية عن تحقيق أهدافها وتوريطها في خسائر بشرية ومادية فادحة يمثل انتصارا استراتيجيا مهما، وفي المقابل يرى آخرون أن فشل روسيا في تحقيق هدف إزاحة الرئيس فولوديمير زيلينسكي عن السلطة في أوكرانيا وإخفاقها في الاستيلاء على العاصمة كييف واضطرارها لتغيير استراتيجيتها العسكرية وحصرها في الاستيلاء على منطقة دونباس هو انتصار استراتيجي كبير لأوكرانيا، وربما يسهم ذلك في تفسير حديث وزارة الدفاع البريطانية عن إمكانية خسارة روسيا الحرب في أوكرانيا.
من الناحية الفعلية لا يمكن القول بأن هناك غالبا ومغلوبا، بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، في هذه الحرب، التي طالت آثارها الجميع بمن فيهم دول العالم التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وتكفي الإشارة إلى أن الدمار الحاصل في أوكرانيا، التي خسرت أكثر من ثلث بنيتها التحتية وتواجه عجزا ماليا يقدر بنحو 5 مليارات دولار شهريا.
والمعضلة الحقيقية أنه لا أحد يستطيع توقع نهاية لهذه الحرب، فالغرب يستعد لحرب استنزاف طويلة الأمد كما سبقت الإشارة، والرئيس بوتين عازم على المضي في انتزاع جميع أراضي منطقة دونباس الناطقة باللغة الروسية، ولا يبدو في عجلة من أمره ولا تزال أهدافه النهائية مجهولة للجميع!
بلا شك أن سيناريو الاستنزاف قد لا يكون هدفا أطلسيا بقدر ما هو نتيجة تمليها ظروف هذه الحرب، فالدعم العسكري الكبير والمتواصل لأوكرانيا يسهم في تعزيز موقفها الميداني، وإطالة أمد الحرب بشكل أو بآخر، لاسيما أن المسألة ترتبط ارتباطا عضويا بمصير أوكرانيا ووجودها كدولة ذات سيادة، وعلى الجانب الآخر فإن الجيش الروسي بات مكشوفا بشكل كبير للاستخبارات الغربية، حيث تتكاثر التقارير عن أداء قواته ومستوى التدريب والجاهزية والتنسيق بين القادة، ناهيك عن ضعف المعلومات الاستخباراتية الذي تسبب في عدم بناء توقعات دقيقة لمقاومة الجيش الأوكراني، ناهيك عن عدم بناء تقديرات دقيقة لحجم الدعم العسكري الغربي للجيش الأوكراني، وهو ما تسبب في إرباك حسابات الكرملين. فعلى سبيل المثال، تشير بعض التقارير الغربية إلى أن ضحايا الجيش الروسي بعد مائة يوم من حرب أوكرانيا تفوق خسائره البشرية طيلة سنوات الغزو السوفيتي لأفغانستان.
وهناك عامل ثالث ربما يكون صاحب التأثير الأهم في تغذية سيناريو الاستمرار، وهو رغبة الولايات المتحدة ومعظم حلفائها الأوروبيين في استنزاف قوة روسيا العسكرية والاقتصادية لدرجة تنأى بها عن التفكير مجددا في أي عمل عسكري خارج حدودها.
ثمة عامل آخر يدفع باتجاه إطالة أمد حرب أوكرانيا، وهو تحول الصراع إلى روسي - غربي، حيث باتت موسكو تراهن على تأثير نقص إمدادات الطاقة وارتفاع أسعارها ووقوع الحكومات الغربية تحت ضغوط الرأي العام، فضلا عن احتمالية حدوث انقسامات في صفوف الغرب بسبب ارتفاع كلفتها، بينما تراهن عواصم الغرب على وقوع اضطرابات داخل روسيا بسبب العقوبات الاقتصادية المرتبطة بالحرب، ما قد ينتهي بسقوط الرئيس بوتين وتغيير النظام الحاكم ومن ثم الانسحاب من أوكرانيا كما حدث في أفغانستان، ولكن هذا الأمر يبدو كسيناريو حالم لأن الأمر يرتبط بسيادة روسيا واعتبارات قومية أخرى، ناهيك عن صعوبة القبول بإذلال الجيش الروسي.
الموضوعية تقتضي القول إن روسيا تتعامل مع تصرفات الغرب في أزمة أوكرانيا بهدوء وعقلانية وحذر بالغ، والدافع الأساسي لذلك هو حرصها على تفادي الاستدراج لحرب واسعة، أو استفزازها لاستخدام أسلحة أكثر دمارا بشكل قد يتسبب في حدوث تحولات في مواقف العالم تجاهها، علاوة على أن موسكو تدرك أن إطالة أمد الحرب ليس في مصلحة الغرب تماما في ظل نقص الإمدادات الغذائية وارتفاع أسعار مواد الطاقة ومستويات التضخم القياسية التي يصعب تحملها على المديين البعيد والمتوسط، وهو ما ينذر بحدوث خلاف أوروبي - أمريكي حول ضرورة إنهاء هذه الحرب بأي شكل.
ومن ثم فإن إسدال الستار على الأزمة يبدو مرتبطا بموقف الغرب، والولايات المتحدة تحديدا، حيث يتطلب الأمر بناء مقاربة دبلوماسية واقعية تسهم في التوصل إلى تسوية تنهي هذه الحرب.
الخلاصة في ظل معاناة العالم الذي يشارك في دفع فاتورة هذه الحرب، أن الموضوع كله يفوق حسابات الخسائر الروسية أو الغربية، فكل دول العالم تقريبا تتحمل أعباء هذه الأزمة، التي عجلّت بظهور أسس نظام عالمي جديد، وسيناريو الاستنزاف قد يفجر أزمات خطيرة على الصعد كافة، وقد يتسبب في اندلاع أزمات أخرى وتوسيع دائرة المعاناة والتوترات عالميا، ما ينذر بعواقب خطيرة لن يكون أحد بمنأى عنها سواء في الغرب أو الشرق.
drsalemalketbi@