«الذات والآخر والذاكرة» في كتاب: (الأمية) للروائية المجرية أغوتا كريستوف
الخميس / 11 / شوال / 1443 هـ - 20:22 - الخميس 12 مايو 2022 20:22
إن قراءة العلامة اللغوية: (الأمية) الواردة عنوانا عند الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف يضع القارئ له للوهلة الأولى أمام احتمال قرائي أولي مفاده أنه سيتوقف عند ساردة أنثى اتسمت بسمة الأمية؛ لأنها أنجزت تعرفها على القراءة والكتابة في سن متأخرة، لتكتب بعد ذلك سيرتها، لكن هذا الاحتمال يبدأ بالتلاشي والاضمحلال عندما يقرأ في أول هذه المذكرات أن القراءة أشبه بالمرض عند الساردة منذ مرحلة الطفولة الأولى، وأن القراءة عندها هي حالة شغف وولع بكل ما تقع عليه يداها، أو عيناها.
وبمتابعة قراءة المذكرات يكتشف القارئ أن سمة الأمية ستنتقل إلى معنى آخر وإلى تجربة أعمق دلالة في التجربة الإنسانية، إن الأمية، هنا، كامنة عندما تجد الذات الإنسانية نفسها في مجتمع آخر غير مجتمعها في لحظة إجبار على اختيار المنفى بديلا للوطن واللجوء بديلا للاستقرار الذي من المفترض أن يؤمنه وطن الإنسان الأول، ومن هنا تتخلى الذات عن كثير من سماتها، بل عن هويتها الأصلية لصالح هوية الآخر المستضيف لهذه اللحظة الحاسمة من لحظات الضعف البشري الذي تبحث فيه الذات عن سكينتها واستقرارها، فتتخلى في سبيل ذلك عن أناك/ لغتك وتضطر للتعايش مع لغة أخرى جديدة، بل مجتمع جديد بكل ما يحمله من عادات وتقاليد، هنا تُمنح صفة الأمية معنى جديدا ووهجا دلاليا تبقى ظلاله مسيطرة على السرد، وتتمظهر من خلاله علاقات متنوعة محورها الأنا ذاتها عبر الذكريات المستعادة من زمن الطفولة والمكان الأول.
ثم عبر رحلة اللجوء والهروب من الحرب، وهو ما يمكن أن نلحظ تجلياته في المقطع السردي المعنون بـ (أناس مرتحلون)، حيث تتعامل الكاتبة مع الحياة بصدق وشفافية وبساطة من خلال حديثها عن لحظة النزوح مع زوجها وابنتها الرضيعة وصولا إلى سويسرا، فتبرز الصدمة الأولى في العلاقة مع لغة الآخر التي تظهر الملمح البارز لمفهوم الأمية الذي أرادت الساردة تصويره، من خلال العجز عن وصول إلى حاجاتك الأولى والأساسية لعجزك عن امتلاك لغة الآخر، ومن ثمة الشعور لاحقا بأن لغة الآخر ستقتل لغتك الأم، على الرغم من أن السرد يظهر تعاطفا وألفة من الآخر، مما يعني في العمق الشعور بعلاقة صداقة أو تعاطف إنساني معه، وهذا ما يظهر بتعاونه معها على اختلاف فئاته وهذا ما يظهر في بعض أوصاف الآخر كوصفها تعاطف السيد الذي يزودها باحتياجات ابنتها الرضيعة: (يعطيني السيد دائما بنفسه ما أطلبه)، وهنا برزت اللغة عنصرا مهما في إظهار الأمية والعجز في التواصل مع الآخر: (كنت مضطرة إلى تعلم بعض الكلمات الألمانية حتى استطيع طلب احتياجات ابنتي).
وقد يكون مصدر تعاطف الآخر مع تجربة اللجوء للأنا المهاجرة، هو أنه عاش تجربة متماثلة سابقا في تلميح لحروب سابقة (الحرب العالمية الثانية)، وهي تجربة تضع الآخر في دائرة التجربة العاطفية ذاتها، وهي الخوف، وهو ما نلحظه في استقبال الساردة عند الحدود السويسرية.
لكن الذاكرة تعود بالساردة إلى الوقوف عند مركز اللجوء، الذي يضمر في داخله فقدان الانتماء إلى المجتمع الآخر، عندما تصاب هذه العلاقة بنوع من التعالي من الآخر، وهذا ما يبرز في قولها: (يوم الأحد، بعد مباراة كرة القدم، يأتي المتفرجون لمشاهدتنا خلف حاجز الثكنة يعطوننا شوكولاتة وبرتقالا، لم يعد الأمر يشبه معسكرات الاعتقال، وإنما حديقة الحيوانات، أشدنا تعففا كانوا يمتنعون عن الخروج إلى الساحة، بينما في المقابل يمضي آخرون وقتهم في مد أيديهم عبر الحاجز ومقارنة غنائمهم).
إن علامات من مثل: الثكنة، معسكرات الاعتقال، الحاجز، مد اليد، حديقة الحيوانات، تظهر بجلاء أن تعاطف الآخر الإنساني لم يكن مكتملا، إنسانيا على الأقل من خلال الاعتراف بندية هذا اللاجئ مع أبناء المجتمع الجديد، من هنا طغت علاقات التسلية معه، والتسلية هنا تكون مع شيء جديد على الإنسان لا يماثله إنسانيا، فيبعث في نفسه نزعة الترفيه التي تبعثها زيارة لحديقة الحيوان، بحثا عن البهجة، وهذا ما يولد في نفس الذات اللاجئة شعورا بالدونية، أو بهدر الكرامة فتنكمش على نفسها، وتجعل من التساؤل الافتراضي الآتي هاجسا لها وإن أمضت سنينا طويلة في الحياة مع الآخر: (كيف كانت حياتي لتكون لو لم أهجر بلدي؟ أحسب أنها ستكون أشد قساوة وأكثر فقرا، لكنها ستكون أقل عزلة وأقل تمزقا، ولربما كانت حياة سعيدة).
إن السؤال التراجيدي الذي يجبر الإنسان على التخير بين وطن طارد لأبنائه؛ فيفقدون السكينة والألفة، ووطن آخر مستقبل له ولكن بشروط من العزلة والتمزق، مع خسارات نفسية للاجئ في كلا الحالتين. ومن هنا تصبح سرديات الكتابة في مذكراتها سفرا في لباب التناقضات الحادة التي تنسج العالم.
@tamidghilib1404
وبمتابعة قراءة المذكرات يكتشف القارئ أن سمة الأمية ستنتقل إلى معنى آخر وإلى تجربة أعمق دلالة في التجربة الإنسانية، إن الأمية، هنا، كامنة عندما تجد الذات الإنسانية نفسها في مجتمع آخر غير مجتمعها في لحظة إجبار على اختيار المنفى بديلا للوطن واللجوء بديلا للاستقرار الذي من المفترض أن يؤمنه وطن الإنسان الأول، ومن هنا تتخلى الذات عن كثير من سماتها، بل عن هويتها الأصلية لصالح هوية الآخر المستضيف لهذه اللحظة الحاسمة من لحظات الضعف البشري الذي تبحث فيه الذات عن سكينتها واستقرارها، فتتخلى في سبيل ذلك عن أناك/ لغتك وتضطر للتعايش مع لغة أخرى جديدة، بل مجتمع جديد بكل ما يحمله من عادات وتقاليد، هنا تُمنح صفة الأمية معنى جديدا ووهجا دلاليا تبقى ظلاله مسيطرة على السرد، وتتمظهر من خلاله علاقات متنوعة محورها الأنا ذاتها عبر الذكريات المستعادة من زمن الطفولة والمكان الأول.
ثم عبر رحلة اللجوء والهروب من الحرب، وهو ما يمكن أن نلحظ تجلياته في المقطع السردي المعنون بـ (أناس مرتحلون)، حيث تتعامل الكاتبة مع الحياة بصدق وشفافية وبساطة من خلال حديثها عن لحظة النزوح مع زوجها وابنتها الرضيعة وصولا إلى سويسرا، فتبرز الصدمة الأولى في العلاقة مع لغة الآخر التي تظهر الملمح البارز لمفهوم الأمية الذي أرادت الساردة تصويره، من خلال العجز عن وصول إلى حاجاتك الأولى والأساسية لعجزك عن امتلاك لغة الآخر، ومن ثمة الشعور لاحقا بأن لغة الآخر ستقتل لغتك الأم، على الرغم من أن السرد يظهر تعاطفا وألفة من الآخر، مما يعني في العمق الشعور بعلاقة صداقة أو تعاطف إنساني معه، وهذا ما يظهر بتعاونه معها على اختلاف فئاته وهذا ما يظهر في بعض أوصاف الآخر كوصفها تعاطف السيد الذي يزودها باحتياجات ابنتها الرضيعة: (يعطيني السيد دائما بنفسه ما أطلبه)، وهنا برزت اللغة عنصرا مهما في إظهار الأمية والعجز في التواصل مع الآخر: (كنت مضطرة إلى تعلم بعض الكلمات الألمانية حتى استطيع طلب احتياجات ابنتي).
وقد يكون مصدر تعاطف الآخر مع تجربة اللجوء للأنا المهاجرة، هو أنه عاش تجربة متماثلة سابقا في تلميح لحروب سابقة (الحرب العالمية الثانية)، وهي تجربة تضع الآخر في دائرة التجربة العاطفية ذاتها، وهي الخوف، وهو ما نلحظه في استقبال الساردة عند الحدود السويسرية.
لكن الذاكرة تعود بالساردة إلى الوقوف عند مركز اللجوء، الذي يضمر في داخله فقدان الانتماء إلى المجتمع الآخر، عندما تصاب هذه العلاقة بنوع من التعالي من الآخر، وهذا ما يبرز في قولها: (يوم الأحد، بعد مباراة كرة القدم، يأتي المتفرجون لمشاهدتنا خلف حاجز الثكنة يعطوننا شوكولاتة وبرتقالا، لم يعد الأمر يشبه معسكرات الاعتقال، وإنما حديقة الحيوانات، أشدنا تعففا كانوا يمتنعون عن الخروج إلى الساحة، بينما في المقابل يمضي آخرون وقتهم في مد أيديهم عبر الحاجز ومقارنة غنائمهم).
إن علامات من مثل: الثكنة، معسكرات الاعتقال، الحاجز، مد اليد، حديقة الحيوانات، تظهر بجلاء أن تعاطف الآخر الإنساني لم يكن مكتملا، إنسانيا على الأقل من خلال الاعتراف بندية هذا اللاجئ مع أبناء المجتمع الجديد، من هنا طغت علاقات التسلية معه، والتسلية هنا تكون مع شيء جديد على الإنسان لا يماثله إنسانيا، فيبعث في نفسه نزعة الترفيه التي تبعثها زيارة لحديقة الحيوان، بحثا عن البهجة، وهذا ما يولد في نفس الذات اللاجئة شعورا بالدونية، أو بهدر الكرامة فتنكمش على نفسها، وتجعل من التساؤل الافتراضي الآتي هاجسا لها وإن أمضت سنينا طويلة في الحياة مع الآخر: (كيف كانت حياتي لتكون لو لم أهجر بلدي؟ أحسب أنها ستكون أشد قساوة وأكثر فقرا، لكنها ستكون أقل عزلة وأقل تمزقا، ولربما كانت حياة سعيدة).
إن السؤال التراجيدي الذي يجبر الإنسان على التخير بين وطن طارد لأبنائه؛ فيفقدون السكينة والألفة، ووطن آخر مستقبل له ولكن بشروط من العزلة والتمزق، مع خسارات نفسية للاجئ في كلا الحالتين. ومن هنا تصبح سرديات الكتابة في مذكراتها سفرا في لباب التناقضات الحادة التي تنسج العالم.
@tamidghilib1404