الرأي

علوم الأولين

زيد الفضيل
في ظل ما نعيشه من تكالب برامجي تافه مع كل موسم رمضاني، يبرز برنامج «علوم الأولين» ليؤكد لي ولغيري أن الدنيا لا تزال بخير، وأن النية الحسنة والرسالة الصادقة باقية ما بقي الوجود على هذا الكون.هكذا أرى الأمر من زاويتي، وأجد أن كثيرا غيري يتوافق معي صغارا وكبارا، رجالا ونساء، لا سيما وأن حالة الغبش والتفاهة قد باتت زائدة عن حدها، وصارت كثير من البرامج تنحو صوب الاستهبال والصراخ ورمي الكلمات بشكل عبثي مقزز على اعتبار ذلك من الترفيه المضحك، أو تتوه في حواراتها الهزلية وأفكارها العقيمة وبأداء مرتجل وإخراج عقيم تصورا منهم أن ما يتم إنتاجه يصب في خانة الاسكتشات التمثيلية، وفي كل فلا ذا تأتى ولا ذاك حصل، أي لم يحقق الصنف الأول القائم على الاستهبال إضحاك المتابعين، بل زادهم سخطا وسخرية عليه وعلى كل الضيوف المشاركين الذين رضوا بأن يكونوا أداة للسخرية، وقدموا ذواتهم طيعة مقابل حفنة من المال ليتم استنقاصهم واللعب والاستهزاء بهم في مشهد عبثي خال من أي قيمة إنسانية.

والحال نفسه مع الشكل الآخر مما يتم إنتاجه من اسكتشات تمثيلية هزلية يتم إخراجها بشكل عشوائي، وكأني بالمنتج ومن باب الاستهتار وعدم الصرف كما يجب من حيث التعاقد مع كاتب قدير، والاستعانة بمخرج مهني، قد ترك للممثلين حرية التعبير بما تجود به أنفسهم، فكانت الحصيلة ما نراه ونسمعه من عبثية يقال عنها تمثيلا، ومن رداءة يقال عنها اسكتشات تمثيلية، وهكذا صار مجتمعنا واقعا بين عبثية هنا وسوء هناك، والسؤال: لمصلحة من يتم تعميق ذلك في كل موسم من مواسم رمضان؟

في ظل كل ذلك يبرز لي «علوم الأولين» في موسمه الثالث ليعيد لي الأمل بنصه الجميل، وحبكته الدرامية الرائعة، وأداء ممثليه المهني والمتقن، ويزيده جمالا ذلك النص المحكي الذي يقدمه الراوي بمهارة وإتقان، وكل ذلك قد جرى إخراجه بتميز، وحتما فالفضل يصب في إيمان المنتج بأهمية ما يجب أن يقدم، بل ويقيني بإيمان كل فريق العمل من أدناهم إلى أعلاهم بأهمية ما يتم إنتاجه، ولعمري فذلك قيمة ومعنى يمكن للرائي أن يستشعره ويلمسه، وكفى بذلك تقديرا وشكرا لكل فريق العمل.

على أن ذلك التقدير الملموس لا يتوقف عند برنامج «علوم الأولين» وحسب، بل رأيته واضحا في أفئدة الناس مع برنامج آخر تم إنتاجه وعرضه في مملكة البحرين الشقيقة، وحمل اسم «أنت كفو»، وأتصور أن البرنامجين يمكن أن يكونا مؤشرين صادقين لمسؤولي الإعلام لتحديد ما يحتاجه المشاهد العربي مستقبلا، وكم أرجو أن نشهد تحولا جادا في رمضان القادم صوب قيم ومثل ومعان أفضل وأحسن وأعمق مما يتم إنتاجه وتسويقه اليوم بأيد غير أمينة، وهو أقل ما أصفها به، وتستهدف تدمير بنيتنا الوجدانية، وهو أخطر ما نواجهه في واقعنا المعاصر وتطلعات مستقبل أبنائنا، وليت من يدرك ويعي بأن الصراع القادم كائن ويكون على تدمير الهويات وإعادة تشكيلها بأبشع وأتفه الصور، فهل ذلك مقبول أيها السادة؟

من هنا تبرز قيمة برنامج «علوم الأولين» الذي يُعرض على القناة السعودية، حيث يستهدف البرنامج إعادة وإحياء الموروث، بما فيه من حكم وقيم ومبادئ، وبأسلوب حديث، يقوم على رواية قصص التراث الشعبي والأمثال وأشهر الأبيات الشعرية، مع تجسيد بعض المشاهد الدرامية التي تعود بنا إلى تلك الحقبة، وتلك هي الغاية التي تتشكل من خلالها هويتنا، ونبني بها شخصيتنا التي تميزنا عن غيرنا، أو على الأقل نعزز عبرها قيم الخير والمروءة والفضل في وجداننا، لاسيما وأننا وبحكم التطور الحضري القائم قد تفرقت بنا السبل، وتشتت بنا الطريق، وصرنا كأفراد بعيدين عن بعضنا البعض، وبالتالي صار بعيدا عن عائلاتنا الصغيرة النموذج القريب الذي به نقتدي، إن لم يكن غائبا بالكلية عنا. وهو ما يعوضه «علوم الأولين» ولو بشكل محدود، وكفى بذلك شاهدا وشهيدا.

أخيرا.. فقديما قالوا: بأن الزائد أخو الناقص، وأن الفارق بين الجوع الماحق والتخمة القاتلة ليس كبيرا، إذ في الحالتين تعاف النفس كل ما يقدم لها، وهو واقعنا المعاش اليوم مع كل هذه التخمة من العروض والمسلسلات التي يتم تجهيزها وتقديمها في شهر رمضان، تصورا من مكاتب التسويق الإعلاني بأنه لا يزال شهرا تجتمع فيه العائلات مع بعضها البعض، وقد يكون ذلك صحيحا، لكنهم نسوا أن الأجيال الشابة لم تعد مرتبطة بشاشة التلفزيون، وأن من هم مرتبطون بها صاروا ناقمين على ما يقدم، كما أنهم على وشك الاختفاء.

دمتم بخير وصيام مقبول.

zash113@