«بين الوحشين»!
السبت / 8 / رمضان / 1443 هـ - 22:26 - السبت 9 أبريل 2022 22:26
«ما بين وبين، أنا بين اثنين، حبسوا خطواتي من ناحيتين، أتراني أين؟، بين الوحشين!»، تلك المقدمة كانت أنشودة تعليمية في «افتح يا سمسم»، ذلك البرنامج التعليمي العظيم الذي يذكره جيدا جيل الطيبين، كانت الأنشودة تؤدى من خلال دمية على شكل رجل محجوز بين وحشين، يحاول الخلاص منهما دون جدوى، والهدف المنشود من تلك الأنشودة كان تعليم النشء الصغير معنى أن تكون بين اثنين بأسلوب تعليمي خلاق وفريد.
تذكرت هذه الأنشودة وأنا أتابع نشرات الأخبار وبوادر الخلاف الذي بدأ بين الأوروبيين حول الغاز الروسي واستمرار استيراده من عدمه في ظل استمرار الصراع في أوكرانيا، فألمانيا يبدو أنها أكثر البلدان الأوروبية تضررا من أي عملية فطام منتظرة تمنعها هذا النوع من الطاقة، وبوتين من الناحية الأخرى يصر أن يكون الدفع العاجل والآجل بالروبل الروسي، في محاولة منه للتغلب على العقوبات المفروضة على بلاده ولتقويض عرش الدولار، وفي محاولة أخرى لدفع بعض الدول الأخرى لتحذو حذو روسيا وتستغني عن الدولار كعملة رئيسة ورسمية للتعاملات التجارية بين الدول.
دول أوروبا تعيش محنة كبيرة فهي بين قطبين شرسين، كل منهما له رؤاه وآراؤه وسياساته وأطماعه وأحلامه، فروسيا من الشرق، بدأت تحاول العودة كقوة عظمى من خلال استحضار التاريخ وتطويع الجغرافيا وتغيير معالمها -إن لزم الأمر-، خدمة للماضي العريق، والحاضر المقلق، والمستقبل المنتظر والمأمول، لجيل بوتيني يحلم ويعمل من أجل عودة روسيا كقوة عالمية تستطيع أن تقول «لا»، وتتحمل توابعها الاقتصادية والثقافية والعسكرية.
أما أمريكا فهي حامية أوروبا وصاحبة مشروع مارشال الشهير الذي أعاد الحياة للقارة العجوز بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، ودفع باقتصاديات أغلب دولها للعودة إلى الحياة من جديد، لتصبح تلك الدول كيانات اقتصادية منتجة، كألمانيا التي أعادها مارشال ومشروعه الأمريكي لتصبح قوة اقتصادية عظمى يحسب لها ألف حساب، بالإضافة إلى أن الأوروبيين ما يزالون يذكرون الدور الأمريكي الفاعل في الحرب العالمية الثانية وكيف استطاع أن يخلصها من مخاطر النازية ولهيب الشيوعية كمشروعين فكريين كانا يهددان حضارتها وكادا أن يغيرا خارطتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وبهذا تكون أمريكا في المخيالين السياسي والشعبي في أوروبا، الدولة التي أسهمت بمواردها البشرية والمادية في تغيير موازين الحرب لصالح حلفائها الأوروبيين والتي أبقتهم بعد ذلك صامدين في وجه ما كان يعرف بحلف وارسو ودوله الشيوعية. من هنا يتضح التأثير الأمريكي على أوروبا كونها تمثل مركز الثقل فيما يعرف بحلف الناتو الذي تتزعمه على مدار سبعة عقود، وينضوي تحت لوائه قرابة الثلاثين دولة، كلها تتماثل وتمتثل للسياسات الأمريكية وتوجيهاتها وتوجهاتها في كل المجالات.
ومع بداية الحرب الأوكرانية بدا جليا حالة الضعف في القارة العجوز، حالة تكشف العوز الاقتصادي للطاقة وعجز هذه القارة معا توفير الموارد الطبيعية الكافية، لسد احتياجاتها الاقتصادية العاجلة والآجلة، كذلك وضح لرجل الشارع البسيط في تلك البلدان، سطوة الإدارة الأمريكية على صانع القرار الأوروبي، وعدم قدرة تلك الدول على الموازنة بين احتياجاتها الداخلية ومسؤولياتها كأعضاء في حلف تتزعمه أمريكا، القوة العظمى الأولى والأهم في العالم، وهذا ما يجعل أوروبا أسيرة لفكرة أنها ومنذ بداية الأزمة الأوكرانية الطرف الأضعف والأحوج لكلا القوتين الرئيسيتين في العالم، روسيا وأمريكا.
وإكمالا للأنشودة المذكورة في بداية المقال، والتي يقول فيها الرجل العالق بين الوحشين في مقطعها الأخير: «تنساب دموعي فوق الخدين، وحش في الجهة اليسرى، والجهة الأخرى، من قبل الفجر حتى في الليل، أتراني أين؟، يا ويلي ويل، ما بين وبين، بين الوحشين!»، وهذا تماما يجسد حال أوروبا اليوم ومدى ضعفها وهشاشة موقفها، واحتمالية نشوء كثير من الخلافات والاختلافات القادمة، والتي إن حصلت فستعيدها حتما إلى مربعات تاريخة دموية مؤلمة، عندما كانت تحكمها وتتحكم بها نزعات أصولية متشددة وحركات عرقية متطرفة، أنتجت حروبا طاحنة راح ضحيتها الملايين من البشر.
ويبقى السؤال الأهم، إلى أي مدى تستطيع القارة العجوز الموازنة بين طرفي المعادلة الحالية والمحافظة على وحدتها وسلامتها في ظل هذا المتغير الجديد القادم من الشرق القريب؟
alaseery2@
تذكرت هذه الأنشودة وأنا أتابع نشرات الأخبار وبوادر الخلاف الذي بدأ بين الأوروبيين حول الغاز الروسي واستمرار استيراده من عدمه في ظل استمرار الصراع في أوكرانيا، فألمانيا يبدو أنها أكثر البلدان الأوروبية تضررا من أي عملية فطام منتظرة تمنعها هذا النوع من الطاقة، وبوتين من الناحية الأخرى يصر أن يكون الدفع العاجل والآجل بالروبل الروسي، في محاولة منه للتغلب على العقوبات المفروضة على بلاده ولتقويض عرش الدولار، وفي محاولة أخرى لدفع بعض الدول الأخرى لتحذو حذو روسيا وتستغني عن الدولار كعملة رئيسة ورسمية للتعاملات التجارية بين الدول.
دول أوروبا تعيش محنة كبيرة فهي بين قطبين شرسين، كل منهما له رؤاه وآراؤه وسياساته وأطماعه وأحلامه، فروسيا من الشرق، بدأت تحاول العودة كقوة عظمى من خلال استحضار التاريخ وتطويع الجغرافيا وتغيير معالمها -إن لزم الأمر-، خدمة للماضي العريق، والحاضر المقلق، والمستقبل المنتظر والمأمول، لجيل بوتيني يحلم ويعمل من أجل عودة روسيا كقوة عالمية تستطيع أن تقول «لا»، وتتحمل توابعها الاقتصادية والثقافية والعسكرية.
أما أمريكا فهي حامية أوروبا وصاحبة مشروع مارشال الشهير الذي أعاد الحياة للقارة العجوز بعد كوارث الحرب العالمية الثانية، ودفع باقتصاديات أغلب دولها للعودة إلى الحياة من جديد، لتصبح تلك الدول كيانات اقتصادية منتجة، كألمانيا التي أعادها مارشال ومشروعه الأمريكي لتصبح قوة اقتصادية عظمى يحسب لها ألف حساب، بالإضافة إلى أن الأوروبيين ما يزالون يذكرون الدور الأمريكي الفاعل في الحرب العالمية الثانية وكيف استطاع أن يخلصها من مخاطر النازية ولهيب الشيوعية كمشروعين فكريين كانا يهددان حضارتها وكادا أن يغيرا خارطتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وبهذا تكون أمريكا في المخيالين السياسي والشعبي في أوروبا، الدولة التي أسهمت بمواردها البشرية والمادية في تغيير موازين الحرب لصالح حلفائها الأوروبيين والتي أبقتهم بعد ذلك صامدين في وجه ما كان يعرف بحلف وارسو ودوله الشيوعية. من هنا يتضح التأثير الأمريكي على أوروبا كونها تمثل مركز الثقل فيما يعرف بحلف الناتو الذي تتزعمه على مدار سبعة عقود، وينضوي تحت لوائه قرابة الثلاثين دولة، كلها تتماثل وتمتثل للسياسات الأمريكية وتوجيهاتها وتوجهاتها في كل المجالات.
ومع بداية الحرب الأوكرانية بدا جليا حالة الضعف في القارة العجوز، حالة تكشف العوز الاقتصادي للطاقة وعجز هذه القارة معا توفير الموارد الطبيعية الكافية، لسد احتياجاتها الاقتصادية العاجلة والآجلة، كذلك وضح لرجل الشارع البسيط في تلك البلدان، سطوة الإدارة الأمريكية على صانع القرار الأوروبي، وعدم قدرة تلك الدول على الموازنة بين احتياجاتها الداخلية ومسؤولياتها كأعضاء في حلف تتزعمه أمريكا، القوة العظمى الأولى والأهم في العالم، وهذا ما يجعل أوروبا أسيرة لفكرة أنها ومنذ بداية الأزمة الأوكرانية الطرف الأضعف والأحوج لكلا القوتين الرئيسيتين في العالم، روسيا وأمريكا.
وإكمالا للأنشودة المذكورة في بداية المقال، والتي يقول فيها الرجل العالق بين الوحشين في مقطعها الأخير: «تنساب دموعي فوق الخدين، وحش في الجهة اليسرى، والجهة الأخرى، من قبل الفجر حتى في الليل، أتراني أين؟، يا ويلي ويل، ما بين وبين، بين الوحشين!»، وهذا تماما يجسد حال أوروبا اليوم ومدى ضعفها وهشاشة موقفها، واحتمالية نشوء كثير من الخلافات والاختلافات القادمة، والتي إن حصلت فستعيدها حتما إلى مربعات تاريخة دموية مؤلمة، عندما كانت تحكمها وتتحكم بها نزعات أصولية متشددة وحركات عرقية متطرفة، أنتجت حروبا طاحنة راح ضحيتها الملايين من البشر.
ويبقى السؤال الأهم، إلى أي مدى تستطيع القارة العجوز الموازنة بين طرفي المعادلة الحالية والمحافظة على وحدتها وسلامتها في ظل هذا المتغير الجديد القادم من الشرق القريب؟
alaseery2@