الرأي

قراء.. لا يقرؤون!

أحمد الهلالي
قال الجاحظ «من لم تكن نفقته التي تخرج على الكتب ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا»، هكذا يكون التعلق بالقراءة ومطالعة الكتب، يبذل في سبيلها الإنسان أموالا طائلة، وجهدا عظيما حتى يحصل على حصيلته التي يعكف على قراءتها، فقد كان الجاحظ يكتري دكاكين الوراقين في الليل فينهل من علومها حتى الصباح، وحين حبس الثلج الشاعر أبا تمام في خراسان، اغتنم مكوثه في مكتبة مضيفه، وخرج بالحماستين الكبرى والصغرى، ولو تركت المجال للحديث عن قصص عشاق الكتاب لاستغرقت حكاياتهم مقالات ومقالات. ولله الحمد كلنا قارئون اليوم، فقد أتخمتنا وسائل التواصل الاجتماعي بالدفق المعلوماتي على مدار الثانية، حتى أصبحت المكالمات الصوتية للأمور المهمة فقط، أما ما عداها فنكتفي بالتراسل، فصارت جل أوقاتنا قراءة، وهذه نعمة كبرى، بقي أن نتدخل شخصيا في اختيار ما نقرأ، فجل ما نقرؤه في وسائل التواصل الاجتماعي على كثرته لا يعطينا ما نريد ولا ما يناسبنا أو ما ينفعنا، بل مفروض علينا من المرسِل غالبا، وغالب الرسائل المتداولة لا جديد فيها كون 90% منها ربما لا تخرج عن مضمار الوعظ المكرور، أو النصائح الطبية أو الاجتماعية، لكنها لا تتوخى العمق الفكري الذي يشغل فكر القارئ، ويستفز خياله، وربما يصيّره كاتبا. أضحى الكتاب الالكتروني بمحتواه العربي الأصيل أو المترجم اليوم على بعد ضغطة زر، ولا يحتاج أن نطبق وصية الجاحظ في إنفاق أموالنا، فمئات المكتبات المجانية تنتشر على الشبكة بكل علوم وآداب الدنيا، قديمها والحديث، بعضها عامة وبعضها متخصصة فيما تهفو إليه نفس القارئ، وتقدم خدمات برامج مطالعة الكتب وتكبير الخطوط، والقراءة من الموقع أو تحميل الكتاب والاحتفاظ به ليكون متاحا في كل وقت دون حاجة الاتصال، والفائدة المرجوة بقراءة كتاب واحد في الأسبوع تفوق مئات الساعات التي نهدرها على شبكات التواصل الاجتماعي في الدردشة أو في حوارات جلها عقيمة لا يخرج أصحابها بفائدة تذكر، لكن الحوار الذي يدور بينك وبين الكتاب سيكون مختلفا جدا. القارئ الذكي هو القارئ الحر، الذي لا يحد اطلاعه بحد، ولا يقوقع ذاته في تخصص ضيق، بل يطلق لذائقته الاطلاع دون موقف مسبق من فكرة أو حضارة أو شخوص، فالتجوال في أدمغة العالم يثري المطالع، ويأخذه إلى فضاءات غير التي ألفها، وفي كل فضاء سيراجع ذاته في غير ثوابته الحقيقية، ويمحص قناعاته، وسيتنازل عن مواقف، ويتخذ مواقف، ويتجدد بوعي لا تنال منه تهمة الذوبان والتلاشي، ولا التماهي مع الأفكار أيا كانت دون وعي وبصيرة. المثقف الحقيقي لا يقاس بشهادته ولا باسم جامعته، بل بسعة اطلاعه وبما يملك من ذخيرة علمية، ومن أين تستقى العلوم إذا لم تحوها بطون الكتب؟، وأعرف شخصيا من العوام رجالا أذكى من أصحاب الشهادات العليا، لكن ظروفهم لم تسعفهم، ولو انفتحت أفكارهم على القراءة لكانوا غير ما هم عليه، وإني لأعجب اليوم ممن يحجم عن ورود النبع، ويلهو على ضفافه دون أن يرشف منه، فاتساع الأفق والحكمة يأتيان بمقدار ما نقرأ من كتب. بقي أن أشير إلى أن الكتابة هي الابن الشرعي للقراءة، فبمقدار ما تقرأ تتحسن أدواتك في الكتابة، وبمقدار ما تعطي القراءة تتكاثر ثروتك اللغوية والمعرفية، وثمة مؤشرات للقراءة الجيدة، فيقال إن الشخص البطيء يقرأ ما يقارب 150 كلمة في الدقيقة، والمتوسط من 300 ـ 500 والجيد 600 والمميز يبلغ 800 كلمة، وهناك نوابغ يتجاوزونها إلى الآلاف، وهذه المؤشرات تخضع لنوع القراءة حين تكون للتصفح، أم للاستمتاع، وحين تكون سرية بحركة الشفتين، أو صامتة، أو جهرية ينزع صاحبها إلى تنغيم صوته وتمثل المقاطع والفقرات، وغالبا ما تكون سرعة القراءة أجدى لأنها تدرب الذهن على سرعة الاستيعاب، وتريح العين، وتساعد في طي الكتاب والانتقال إلى غيره في متعة يعرف لذتها القارئون.