الرأي

الفوضى الخلاقة في البيئات الإدارية

علي المطوع
ارتبط مفهوم الفوضى الخلاقة بحالة سياسية محددة بدأت مفهوما قبل الربيع العربي وتجلت في أحداثه التي ما زالت بعض البلدان ترزح تحت وقع أثرها وتأثيرها. وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في عهد رئيسها أوباما هي من دشنت هذه الفوضى لغة واصطلاحا، والعرب كعادتهم هم أول من تعاطاها مفهوما وممارسة.

وبالرجوع إلى هذا المفهوم وتفكيكه فهو يعني ببساطة شديدة نشوء حالة سياسية في بلد محدد بعد مرحلة من الفوضى المتعمد إيجادها فيه مسبقا، يقوم بها أشخاص محددون ومؤثرون دون أن تعرف هويتهم.

وبإسقاط هذا المفهوم على الحالة الإدارية المزرية في بعض البيئات الوظيفية المريضة، نجد أن بعض النافذين فيها -وقد يكون رأس الهرم بعينه- هم من يمارس هذا المفهوم؛ الفوضى الخلاقة، بمعنى أنه يسعى إلى تكوين حالة من الفوضى بين المستفيدين في إدارته بغرض إثبات حالة ما أو تبرير قصور محدد، أو أذية المسؤول الأعلى من خلال إظهاره بمظهر غير المتفهم لاحتياجات ذلك المرفق الهام وما يتطلبه ويطلبه من تجهيزات وكوادر تستطيع تحقيق أهدافه كجهاز خدمي.

ولنأخذ مثالا على ذلك، عندما يشرع هؤلاء المتنفذون في هذه البيئات غير الصحية في تفريغ بعض الأماكن الهامة من الموظفين أو التجهيزات والاكتفاء بالحد الأدنى من ذلك، في محاولة منهم لخلق حالة من الاستياء عند المستفيدين، هذه الحالة من التذمر تجعل المستفيد يتجه إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو التواصل هاتفيا مع الجهات التي تستمع إلى شكواه، وهنا يتشكل رأي ساخط مفاده أن هناك قصورا ينبغي معالجته، وهنا تتفتق حاسة وحدس الخبث عند هؤلاء فيبدؤون باستغلال هذه الحالات وإيصالها للجهات العليا في المركز بقصد الإضرار بمديرهم الأعلى المباشر في محاولة لوصمه بالقصور والجمود وعدم تفهم طلبات المرفق واحتياجاته، كل ذلك يكون مدعوما بحالة من السخط عند بعض المستفيدين في تلك الناحية على خدمات هذا المرفق وعدم مسايرته ووصوله لمستوى الرضا الذي يأمله المستفيد ويعمل لأجله المخلصون فيه.

وهنا يبدأ المسؤول الخدمي الأعلى في المركز بالضغط على المسؤول العام في تلك الناحية ويسأله: ما بال الخدمة في منطقتك سيئة وما بال البعض يتذمر من سوء الخدمات؟! هنا يصاب هذا المدير بالرعب ويتوجه إلى مرؤوسه الأدنى، ويبدأ بسؤاله عن الأسباب التي جعلت المسؤول الأعلى في مرفقهم الخدمي يرعد ويزبد ويعد ويتوعد، والجواب يكون حاضرا عند هذا المرؤوس والمتمثل في بعض التوصيات التي يطلب من المدير الأعلى إيجادها وتسهيلات أخرى يصر على تفعيلها، معظمها يكون نوعا من التجاوزات التي يفعلها لبعض مناصريه والقريبين من دائرته، ومن ذلك إصراره على تفعيل شيء من الحوافز المالية والمعنوية التي تسهم على حد زعمه في رفع معنويات العاملين وزيادة إنتاجيتهم كخارج الدوام وشهادات الشكر التي يصرف بموجبها بعض الميزات المالية، وهنا يصبح المسؤول الأعلى أسيرا لمرؤوسه، خائفا يترقب، موافقا مسبقا على كل تجاوز يطلب منه لاحتواء هذه المشكلة وحلها!

أما صانع هذه الفوضى فإنه رابح في كل الأحوال فإما أن يخدمه الحظ ويزيح رئيسه الأعلى ويصبح هو (الكل في الكل) كما يقال، أو يضمن بهذا الأسلوب عدم تدخل هذا الرئيس في عمله وتحييده ويخلو له الجو ويحلو لفعل ما يريده، كون هذا المكان في عرفه ومفهومه أصبح ملكا له يمارس فيه نزقه وخفة عقله ويده!

وفي هذه البيئات المريضة التي تُغيب فيها الأهداف السامية والتي يسود فيها هذا المفهوم، فإن هذا الوضع ليس مقصورا على الرئيس التنفيذي لهذه المنظومة بل قد ينسحب هذا الوضع على بعض رؤساء الأقسام في مرفقه، المنعدمي الأخلاق والضمير، ومن ذلك قيام أحدهم بتشويه متعمد لصور بعض الموظفين الأكفاء، المشهود لهم بالنزاهة والفاعلية، واستغلال بعض أخطائهم واجتزاء بعض مواقفهم وتقديمها إلى الرئيس الأعلى ليكونوا خصوما لهذا المدير المجنون الذي يصبح لاحقا أسيرا لتوجهات مرؤوسه الأدنى منزلة وقدرا، والذي يستطيع بدهائه توجيه هذا الرئيس عن بعد، من خلال شحنه من كل الاتجاهات وبكافة الطرق والأساليب، بكل الطاقات السلبية والوشايات الكاذبة التي تجعل هذا المدير كالكلب العقور الباحث عن ضحية يؤذيها ليرضي نفسه المريضة التواقة للشر والمتعطشة للأذى.

كثيرة صور الفوضى وصناعها في بعض البيئات الإدارية وخاصة عندما تحيد هذه الأماكن عن أهدافها المرسومة وتصبح أسيرة لتوجهات رئيس معتوه كل همه أن يمارس نزقه على الموظفين البسطاء متفرغا لأذيتهم متسلحا بضعاف النفوس المنعدمي الكرامة والضمير الذين ينتعلهم في غدوه ورواحه، وهم بالمثل يستخدمونه كالمحارم الورقية لإزالة بصمات أفعالهم الخبيثة عن كل فعل سيئ ساهموا في تشكيله وتصويره كخطأ ينبغي إزالته، في أسلوب مهين من التخادم المقيت القائم بين رئيس غبي ومرؤوس خبيث، وعند سؤال هؤلاء المرؤوسين لاحقا عن المتسبب في تلك الأخطاء والتجاوزات، تحضر إجاباتهم الشيطانية المتفق عليها بسندهم الروائي المتصل والدنيء؛ ذاك توجه مديرنا المعتوه، وتلك كانت توجيهاته!

alaseery2@