حروب الحبوب
الاثنين / 27 / رجب / 1443 هـ - 20:34 - الاثنين 28 فبراير 2022 20:34
الصراعات السياسية للقوى العظمى التي يدار رحها على مسرح أرض أوكرانيا لن تقف آثارها عندها كحال كل الحروب، فالغرب بكفة وروسيا بكفة، تشتعل حرب التهديد ولا تعرف متى يصبح واقعا أو هو لزرع الخوف للجلوس على طاولة المفاوضات، فقانون الغاب هو الذي يحكم، ومن يمتلك عوامل القوة وليس الضعف وحقوق الإنسان والحريات لا تشكل وزنا.
الكشف عن نقاط القوة هو ما يحرك القوى العالمية كالتلويح بجاهزية السلاح النووي مخاطر تدمير الأرض والبشر والبيئة ليست ضمن الأولويات! حتى الفضاء دخل اللعبة فبعد خروج بايدن بالعقوبات الاقتصادية، لوحت روسيا على لسان رئيس وكالة فضائها بالتهديد بإسقاط محطة الفضاء الدولية على الأراضي الأمريكية، بطبيعة الحال لن تقف أمريكا متفرجة على هذه التصريحات. ولن تصمت روسيا لاستخدام الجمعية العالمية للاتصال المالي للمصارف (سويفت) كسلاح لمعاقبتها لشل تجارتها.
كيف سيؤثر ذلك على قيام تحالف صيني روسي مالي؟ كيف تستطيع الدول الأوروبية وغيرها من تقليل خسائرها وتغطية احتياجاتها من روسيا؟
المقصد مخاطر هذا الصراع تصنع نتائج معقدة في العديد من المجالات: في الطاقة وأسعارها ونقص إمدادها، وفي العلاقات الدولية وأقطابها والتوازن الجيوسياسي، وفي ارتفاع الأسعار في المنتجات وسلاسل التوريد والإمداد، وفي الأمن الغذائي.
لكل حرب منتفعون وخاسرون وبطبيعة الحال الدول الصناعية ستبحث عن المكاسب لو على المريخ، وستسعى لتقليل أضرارها لو تضرر نصف سكان الدول النامية.
لكن أود أن أستطرد في الأمن الغذائي، روسيا وأوكرانيا لاعبان رئيسان في سوق الموارد الزراعية، فمثلا يوردان ما يفوق ربع إنتاج العالم من الحبوب بشكل عام، هذا الصراع يؤثر على الإمدادات الغذائية سواء في كمية المعروض أو الأسعار وارتفاعها، وليس الأمس ببعيد للاستشهاد به، كما حدث خلال أزمة كورونا علقت روسيا وعدد من الدول تصدير بعض المواد الغذائية كالقمح خوفا من ارتفاع الطلب المحلي، مما تسبب بتضرر دول فقيرة وارتفاع السلع الغذائية.
ما يحدث العديد من المنتجات الغذائية الرئيسة يتركز إنتاجها بعدد من الدول التي لا تتجاوز أصابع اليد لتغطي الاحتياج العالمي كمحصول القمح والذرة...إلخ، وتلك معضلة أسهمت مفاهيم التجارة العالمية في تعاظمها وانحسار الكثير من المنتجين المحليين خاصة حين يكون سعر المنتج الخارجي أقل ثمنا من المحلي وغيره من الأسباب كالسياسات الزراعية والبنية التحتية وغيره.
وقيل (ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تخيط وتشرب مما لا تعصر) كم ينطبق هذا الحال على كثير من دول العالم النامي. فمثلا تعتمد العديد من الدول الإسلامية كماليزيا وعدد كبير من الدول العربية على تغطية احتياجاتها الأساسية من القمح بالاستيراد من أوكرانيا وروسيا، فقدان هذه الإمدادات أو انخفاضها أو وقفها له العديد من الآثار. السؤال المهم الذي يجب أن نفكر فيه لمن ستكون النفوذ في التحكم على الواردات الغذائية في محاصيل استراتيجية لا غنى عنها كالحبوب؟ ليست الفكرة نشر نذير الشؤم بالجوع، فهناك منتجون آخرون محدودون كأمريكا وأستراليا وكندا، كم ستكون التكاليف باهظة؟!.
قضية الأمن الغذائي قضية أساسية حساسة تظهر أهميتها في ظل الأزمات والظروف السياسية، ليست كل تنمية زراعية هي أمن غذائي! وبطبيعة الحال كثير من الاقتصاديين يروجون للقرية العالمية التي يتحكم في إنتاج أغذيتها وحبوبها عدد قليل من الدول والشركات العالمية!
الأمن الغذائي بمعنى الاكتفاء الذاتي يعني القدرة على تحقيق الاعتماد على الموارد والإمكانات في إنتاج كل الاحتياجات الغذائية محليا. وبطبيعة الحال إمكانية تحقيق ذلك عمليا محال. أما الأمن الغذائي النسبي فهو القدرة على الإنتاج كليا أو جزئيا أو ضمن الحد الأدنى من الاحتياجات وتوفير السلع واستغلال المزايا النسبية.
ولعبة الشراكة العالمية والدول الكبرى قائمة على توفير المواد الغذائية وصنع أذواق المستهلكين وحكر الإنتاج على أصناف معينة والتبادل التجاري الذي يعتمد على الاختيار بناء على انخفاض التكلفة، بغض النظر عن الأزمات.
ويتراجع إنتاج الدول النامية والعربية والإسلامية في التركيز على زراعة الاحتياجات الغذائية الأساسية محليا وفق التموضع الجغرافي وتوفر الموارد الأرضية: المياه، التربة الخصبة،. إلخ. وتزيد التحديات بالمنطقة العربية بسبب الجفاف وتدهور الأراضي وانخفاض خصوبتها والصراعات السياسية.
فمن باب أولى أن تعاظم الفائدة من كل هكتار من الأراضي الزراعية وتركز إنتاجها فما يتوافق مع المحاصيل الاستراتيجية التي تنسجم مع البيئة لو بالحد الأدنى ونكف عن التباهي بمحاصيل ثانوية لا يشكل استيرادها أي مشكلة أو للأسف يتم إتلافها في الأسواق لكثرة المعروض منها.
حين نتحدث عن الاحتياجات الرئيسة لا نعني زراعة الورد والفراولة والتنمية السياحية ذاك أمر آخر وله ميدانه وأهميته. لكن الأمن الغذائي والاحتياج الرئيس ينطلق أولا بما تمتلك من ميزة نسبية تختلف من منطقة لأخرى بذات الدولة هو ما سيحدد خارطة أمنك الغذائي، لن تستفيد أن تهدر أراضيك الزراعية المحدودة المساحة وقليلة المياه في زراعة تجارب الأرز مثلا ولا الشاي ولا الموز الاستوائي! فهي لا تناسبك جغرافيا ومناخيا ولا بزراعة أطنان البطاطس لتتحول لأكياس شيبس! تدر ربحا على الشركات الخاصة ولن تعود بالنفع على أمن البلاد وقت الأزمات. مستقبل الشرق الأوسط وأمنه الغذائي في خطر.
لنا في الصين حكمة وموعظة حين عانت من أكبر مجاعة في التاريخ الحديث، ثم تبنت مبدأ التقيد بالاكتفاء الذاتي الأساسي في الحبوب الغذائية، وهي اليوم توفر الغذاء لخمس سكان العالم! كيف فعلت ذلك؟ تجارب بعضها قابل لدراسة والاستفادة أولا بوضع السياسات الزراعية الفاعلة وليس التخبط وبناء البنية الممكنة للقطاع.
أختم: ما تراه على مائدتك نعمة فلا تهدرها.
AlaLabani_1@
الكشف عن نقاط القوة هو ما يحرك القوى العالمية كالتلويح بجاهزية السلاح النووي مخاطر تدمير الأرض والبشر والبيئة ليست ضمن الأولويات! حتى الفضاء دخل اللعبة فبعد خروج بايدن بالعقوبات الاقتصادية، لوحت روسيا على لسان رئيس وكالة فضائها بالتهديد بإسقاط محطة الفضاء الدولية على الأراضي الأمريكية، بطبيعة الحال لن تقف أمريكا متفرجة على هذه التصريحات. ولن تصمت روسيا لاستخدام الجمعية العالمية للاتصال المالي للمصارف (سويفت) كسلاح لمعاقبتها لشل تجارتها.
كيف سيؤثر ذلك على قيام تحالف صيني روسي مالي؟ كيف تستطيع الدول الأوروبية وغيرها من تقليل خسائرها وتغطية احتياجاتها من روسيا؟
المقصد مخاطر هذا الصراع تصنع نتائج معقدة في العديد من المجالات: في الطاقة وأسعارها ونقص إمدادها، وفي العلاقات الدولية وأقطابها والتوازن الجيوسياسي، وفي ارتفاع الأسعار في المنتجات وسلاسل التوريد والإمداد، وفي الأمن الغذائي.
لكل حرب منتفعون وخاسرون وبطبيعة الحال الدول الصناعية ستبحث عن المكاسب لو على المريخ، وستسعى لتقليل أضرارها لو تضرر نصف سكان الدول النامية.
لكن أود أن أستطرد في الأمن الغذائي، روسيا وأوكرانيا لاعبان رئيسان في سوق الموارد الزراعية، فمثلا يوردان ما يفوق ربع إنتاج العالم من الحبوب بشكل عام، هذا الصراع يؤثر على الإمدادات الغذائية سواء في كمية المعروض أو الأسعار وارتفاعها، وليس الأمس ببعيد للاستشهاد به، كما حدث خلال أزمة كورونا علقت روسيا وعدد من الدول تصدير بعض المواد الغذائية كالقمح خوفا من ارتفاع الطلب المحلي، مما تسبب بتضرر دول فقيرة وارتفاع السلع الغذائية.
ما يحدث العديد من المنتجات الغذائية الرئيسة يتركز إنتاجها بعدد من الدول التي لا تتجاوز أصابع اليد لتغطي الاحتياج العالمي كمحصول القمح والذرة...إلخ، وتلك معضلة أسهمت مفاهيم التجارة العالمية في تعاظمها وانحسار الكثير من المنتجين المحليين خاصة حين يكون سعر المنتج الخارجي أقل ثمنا من المحلي وغيره من الأسباب كالسياسات الزراعية والبنية التحتية وغيره.
وقيل (ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تخيط وتشرب مما لا تعصر) كم ينطبق هذا الحال على كثير من دول العالم النامي. فمثلا تعتمد العديد من الدول الإسلامية كماليزيا وعدد كبير من الدول العربية على تغطية احتياجاتها الأساسية من القمح بالاستيراد من أوكرانيا وروسيا، فقدان هذه الإمدادات أو انخفاضها أو وقفها له العديد من الآثار. السؤال المهم الذي يجب أن نفكر فيه لمن ستكون النفوذ في التحكم على الواردات الغذائية في محاصيل استراتيجية لا غنى عنها كالحبوب؟ ليست الفكرة نشر نذير الشؤم بالجوع، فهناك منتجون آخرون محدودون كأمريكا وأستراليا وكندا، كم ستكون التكاليف باهظة؟!.
قضية الأمن الغذائي قضية أساسية حساسة تظهر أهميتها في ظل الأزمات والظروف السياسية، ليست كل تنمية زراعية هي أمن غذائي! وبطبيعة الحال كثير من الاقتصاديين يروجون للقرية العالمية التي يتحكم في إنتاج أغذيتها وحبوبها عدد قليل من الدول والشركات العالمية!
الأمن الغذائي بمعنى الاكتفاء الذاتي يعني القدرة على تحقيق الاعتماد على الموارد والإمكانات في إنتاج كل الاحتياجات الغذائية محليا. وبطبيعة الحال إمكانية تحقيق ذلك عمليا محال. أما الأمن الغذائي النسبي فهو القدرة على الإنتاج كليا أو جزئيا أو ضمن الحد الأدنى من الاحتياجات وتوفير السلع واستغلال المزايا النسبية.
ولعبة الشراكة العالمية والدول الكبرى قائمة على توفير المواد الغذائية وصنع أذواق المستهلكين وحكر الإنتاج على أصناف معينة والتبادل التجاري الذي يعتمد على الاختيار بناء على انخفاض التكلفة، بغض النظر عن الأزمات.
ويتراجع إنتاج الدول النامية والعربية والإسلامية في التركيز على زراعة الاحتياجات الغذائية الأساسية محليا وفق التموضع الجغرافي وتوفر الموارد الأرضية: المياه، التربة الخصبة،. إلخ. وتزيد التحديات بالمنطقة العربية بسبب الجفاف وتدهور الأراضي وانخفاض خصوبتها والصراعات السياسية.
فمن باب أولى أن تعاظم الفائدة من كل هكتار من الأراضي الزراعية وتركز إنتاجها فما يتوافق مع المحاصيل الاستراتيجية التي تنسجم مع البيئة لو بالحد الأدنى ونكف عن التباهي بمحاصيل ثانوية لا يشكل استيرادها أي مشكلة أو للأسف يتم إتلافها في الأسواق لكثرة المعروض منها.
حين نتحدث عن الاحتياجات الرئيسة لا نعني زراعة الورد والفراولة والتنمية السياحية ذاك أمر آخر وله ميدانه وأهميته. لكن الأمن الغذائي والاحتياج الرئيس ينطلق أولا بما تمتلك من ميزة نسبية تختلف من منطقة لأخرى بذات الدولة هو ما سيحدد خارطة أمنك الغذائي، لن تستفيد أن تهدر أراضيك الزراعية المحدودة المساحة وقليلة المياه في زراعة تجارب الأرز مثلا ولا الشاي ولا الموز الاستوائي! فهي لا تناسبك جغرافيا ومناخيا ولا بزراعة أطنان البطاطس لتتحول لأكياس شيبس! تدر ربحا على الشركات الخاصة ولن تعود بالنفع على أمن البلاد وقت الأزمات. مستقبل الشرق الأوسط وأمنه الغذائي في خطر.
لنا في الصين حكمة وموعظة حين عانت من أكبر مجاعة في التاريخ الحديث، ثم تبنت مبدأ التقيد بالاكتفاء الذاتي الأساسي في الحبوب الغذائية، وهي اليوم توفر الغذاء لخمس سكان العالم! كيف فعلت ذلك؟ تجارب بعضها قابل لدراسة والاستفادة أولا بوضع السياسات الزراعية الفاعلة وليس التخبط وبناء البنية الممكنة للقطاع.
أختم: ما تراه على مائدتك نعمة فلا تهدرها.
AlaLabani_1@