الرأي

موت اللغة واندثارها!

خضر عطاف المعيدي
اللغة كائن حي ينمو ويزدهر ويشيخ ويموت مثلها كأي كائن آخر وهي سنة كونية رضي من رضي وغضب من غضب. ومن فلسفات عالم اللغويات الشهير «كرستال» أن اللغة تموت بموت آخر شخص يتحدثها أو بموت ثاني مستمع لها، ولكن الموت هنا هو الانقراض والفناء التام للغة وهو أحد أشكال موت اللغة المتعددة، وهناك أشكال أخرى لموت اللغة منها أن تكون معطلة وغير رائجة في الحراك اليومي وذلك بهجر أهلها لها وعزوفهم عنها والاستغناء بالبديل عنها.

ولعل اللغة العربية «الفصحى» قد أصبحت على شفا هذا الجرف الذي قد عطلها عن الحراك اليومي. فاللغة العربية ومن أكثر من 1400 عام جامدة الأنظمة لم يطرأ عليها أي تبديل أو تطوير «فالنعت» هو «النعت» من زمان سيبويه، والقواعد هي القواعد لم تتم غربلتها وفقا لاحتياج الأجيال دون الإخلال بالبنية الصحيحة. ولربما يظن البعض أن هذا الجماد هو سر قوة اللغة وثباتها ولكن العكس صحيح، فاللغة التي لا تتطور سوف تشيخ وتموت ولو أشار البعض أن الشرع قد تكفل بحفظها ولا أجد دليلا جازما يثبت أن الشرع قد حفظها، فاللغة العربية موجودة قبل نزول الوحي وما هي إلا أداة لتلقي الوحي «القرآن الكريم» وفهمه والحفظ إنما للقرآن وليس للغة.

ولو نظرنا لأكثر لغة رواجا وشيوعا في العصر الحديث سنجد أنها الإنجليزية، ولا يعلم الجميع أن اللغة الإنجليزية الحديثة ماهي إلا ثمرة من ثمار الغربلة منذ عصرها القديم مرورا بالعصر الوسيط منتهية بعصرنا الحديث. ومن يقرأ للشاعر «تشوسر» قصيدة سيجد العنت لفهمها لاختلاف البناء والمفردات، وكلمة كـ night قد مرت بأكثر من ستين شكلا هجائيا كـ neght وnichte وnyhyt وnyt وغيرها حتى استقرت على صفتها الأخيرة ولم يؤثر ذلك في إضعاف الإنجليزية بل ازدادت ازدهارا.

ومن الجوانب الأخرى فإن قواعد اللغة الإنجليزية قد سارت على قنطرة التنقية لكي تتوافق مع المتلقي ولا تتعجب إن وجدت أحدهم وقد أتقن قواعد اللغة الإنجليزية ويعجز عن لغته العربية والسر بسيط: فالقواعد الإنجليزية تتبع المنطق والمضمون بينما العربية تتبع آواخر الكلم، بل ولا تتعجب أن العربية تقف على شيء واحد وهو «الإعراب» ولو سألت حتى المختص: ما هو الإعراب؟ لقال لك: تشكيل أواخر الكلم. ولا يعلم الغالب أن «الإعراب» إنما هو: الإفصاح، أي أن تتحدث بلغة يفهمها من حولك دون رطانة تخل بالمعنى وسوء التفسير.

ولا نزال ونحن في هذا العصر نعيد ما قاله سيبويه إن جملة: «كسر الزجاج» هنا إنما هي «نائب فاعل» ولا يفهم المتعلم هل كسر الزجاج نفسه أم ماذا؟ فأين المنطق اللغوي هنا! بل ونتحدث عن أن الفعل لا «ينصرف» وكذلك وبعد أن يعرب الشخص أجزاء الجملة ينتهي بقوله: لا «محل لها من الإعراب» ولا يعلم لماذا؟ وغيرها الكثير من الأمثلة التي يقف الكثير أمامها مطبقا الحفظ وليس المنطق، مما جعل البعض يكره اللغة العربية وهي لغته بل ويزداد الأمر سوءا يوما بعد يوم حتى لنجد أن ألفاظا إنجليزية قد شقت طريقها للعربية لتحل محلها وأكاد أجزم أن مستعملها قد عجز أن يجدها في عربيته.

ما لم تكن هناك وقفة جادة لتطوير لغتنا الفصحى فسوف يؤول بها الحال كما حال باللاتينية والتي كان يطلق على أهلها «باكس رومانا» والتي كان يطلق أهلها على كل من لا يجيد اللاتينية بأنه «بربري» وهي لفظة إقصاء ولكن أين اللاتينية اليوم؟ إنها الأم المولدة للغات كثيرة ولكن الأم قد تم «تحنيطها». والعربية الفصحى ستلحق بها والشواهد الحديثة دليل، فهناك لهجات أو كما أشار ابن جني «لغات» مختلفة تفرعت عن «الفصحى» بينما الفصحى قد اندثرت من الحديث اليومي والمتأمل لخريطة الوطن العربي لن يجد «الفصحى» سوى في خطب الجمعة أو أقسام اللغة العربية أو في الدعاء وإن وجدت فهي لغة لا تستقيم مع لسان متحدثها بل يلوك لسانه لوكا ليتجنب اللحن ولن ينجو منه.

وما اتساع رقعة اللهجات أو اللغات المتفرعة عن «الفصحى» إلا شاهد عيان عن عجزها أن توفي حاجات الأفراد اليومية من الحديث والتواصل، ولا أظن حتى أستاذ اللغة النحو العربي قد زار جدته يوما وبعد أن فرغ من زيارتها قال لها: هل أجلب لك قوت يومك؟ أو أن نحويا قد ذهب للمطعم وقال للعامل: أريد شاطرا ومشطورا بينهما كامخ! أجزم أن الجميع من حوله سيقهقه على ذلك.

أخيرا لا أهدف هنا لهدم العربية بل إلى تنقيتها من شوائب لغوية كانت أداة للعربي في الصحراء لا تتوافق مع الحياة المدنية المعاصرة، لا نريد «زيدا» ولا «عمرا» في الأمثلة بل نريد غيرهم من الأسماء، لا نريد مصطلحات نحوية لا يفهما أستاذ اللغة ولا الطالب، لا نريد لغة نحفظها ولا نعي جوانبها ولا المنطق من استعمالها، اللغة وسيلة للتواصل وللتفاهم بين الأفراد ولا نريد أن تكون سدا منيعا يحجب تدفق المعنى والفكر والتراث، لا نريد أن نجعلها «لغة وقفية» لترتبط فقط بالشعائر والتراث نقرأ بها شعر «عنترة» ولا نستطيع أن نشتري بها قطعة من الحلوى، لا نريد نقرأ من خلالها نصا تراثيا كاملا دون فهم مفرداته وبنيته وبلاغته وأسلوب التقديم والتأخير فيه، نريد لغة فصحى مبسطة تفي للحديث وللقراءة دون التكلف والتشدق حال الحديث بها، فهل من مستجيب!