الرأي

الشيخ الطنطاوي.. رمز البساطة والوسطية والاعتدال

السوق

صالح عبدالله كامل
لما أراد الشيخ العلامة علي الطنطاوي، يرحمه الله، أن يضرب مثلا من عنده عن الحياة الدنيا.. وهو الذي قرأ بالتفصيل ما ضربه الله للناس من أمثال.. والشيخ عادة ما يلجأ إلى تقريب المسائل بشكل معاصر، وهو الذي عاش حتى عقود متأخرة من القرن الماضي، نموذجا للبساطة ورمزا للوسطية والاعتدال.. وسبحان من أنزل عليه من حب الناس ما يجعلهم يتذكرونه بكثير من التقدير إلى يومنا هذا، ولم تزده وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة إلا تعريفا ومحبة وانتشارا.. وأصبحت أحاديثه وبرامجه مرجعا لكل الباحثين عن بساطة الإسلام ويسره وعظمته.. ولا أدري لماذا لا يستفيد التلفزيون السعودي من ذلك الكنز الذي تركه الراحل الكريم، فقد كانت برامجه مثل نور وهداية، وعلى مائدة الإفطار، من الدرر التي كانت تعرض على شاشته.. مع علمي أنها موجودة في مكتبة التلفزيون. وكم يحمد للتلفزيون المصري أساسا ثم غيره من المحطات المصرية الخاصة، الاستفادة من كنوز الشيخ الشعراوي، يرحمه الله، فقد كان هو الآخر يتحدث إلى الناس على قدر عقولهم، رغم مكانته العلمية وقدراته اللغوية.. والحقيقة أنهما، ومثلهما العلامة الشيخ ابن باز، الذي تحدثت في مقالة سابقة عن نور بصيرته وسماحة علمه، وأمثال هؤلاء الأفذاذ يعتبرون نعمة وهبتها هذه الأمة، علينا جميعا أن نرعى ما تركوا لنا من إرث قيم ومن كنوز نقية يجب الاستفادة منها، خاصة في هذا الزمن الذي اختلف فيه الناس، وكل يرى في شيخه الحقيقة والصواب، وفي غيره الخطأ وعدم فصل الخطاب. أعود إلى المثل الذي ضربه الشيخ الطنطاوي، رحمه الله.. قال الشيخ: أتعرفون ما مثال الحياة الدنيا؟ اسمعوا: أعلنت أمريكا مرة عن تجربة ذرية ستجريها في جزيرة صغيرة من جزر البحر الهادئ.. وكان في هذه الجزيرة بضع مئات من السكان يشتغلون بصيد الأسماك. فطلبت أمريكا منهم إخلاء مساكنهم، على أن تعوضهم عنها وعما فيها، ببيوت مفروشة في أي بلد يريدونه من البلدان، على أن يعلنوا استعدادهم لإخلائها، وإحصاءهم لما فيها، قبل موعد كذا (وحددت لهم موعدا)، ثم تأتي الطائرات فتحملهم من الجزيرة.. فمنهم من أعلن الاستعداد للإخلاء، وقدم الإحصاء قبل الموعد، ومنهم من أهمل وأجل حتى قرب الموعد، ومنهم من قال: هذا كله كذب، ما في الوجود مكان اسمه أمريكا، وما الدنيا إلا هذه الجزيرة، ولسنا بتاركيها، ونسي أن الجزيرة ستنسف كلها فتكون أثرا بعد أن كانت عينا. هذا يا إخوتي مثل الدنيا، أضربه عبر هؤلاء السكان: الأول مثل المؤمن الذي يفكر في آخرته، ويستعد بالتوبة والطاعة دائما للقاء ربه. والثاني: مثل المؤمن المقصر العاصي. والثالث مثل المادي الكافر الذي يقول إنما هي حياتنا الدنيا لا حياة بعدها. ويوضح الشيخ بعد هذا المثل، والذي أتى به وهو يخاطب أقواما شاهدوا وما زالوا يشاهدون، وسمعوا وما زالوا يسمعون.. عن ما فعلته القنبلة الذرية في هيروشيما إبان الحرب العالمية.. وأدركوا مدى ما أصاب أرضها من فناء ودمار، وكيف رجفت الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا - لم يقرأ الشيخ شيئا من سورة المزمل على من يعظهم.. ولكنه جعلهم يتخيلون كل الآيات - ورغم هذا قال الشيخ متابعا حديثه: وليس معنى هذا أن الإسلام يطلب من المسلم أن يزهد في الدنيا مرة واحدة وينفض أصابعه منها، ولا أن يسكن المساجد فلا يخرج منها، ولا أن يأوي إلى مغارة يمضي حياته فيها، لا.. بل إن الإسلام يطلب من المسلمين أن يكونوا في الحضارة الخيرة سادة المتحضرين، وفي المال أغنى الأغنياء، وفي العلم - العلم كله - أعلم العلماء، وأن يعرف كل مسلم حق جسده عليه بالغذاء والرياضة، وحق نفسه عليه بالتسلية والإجمام والمتعة بغير الحرام، وحق أهله بالرعاية وحسن الصحبة، وحق ولده بالتربية والتوجيه والعطف، وحق المجتمع بالعمل على كل ما يصلحه، كما يعرف حق الله بالتوحيد والطاعة. يجمع المال ولكن من الحلال، ويستمتع بالطيبات المباحة، ويكون في الدنيا على أحسن ما يكون عليه أهلها، بشرط أن يبقى صحيح التوحيد، لا يداخل إيمانه شرك ظاهر أو خفي، صحيح الإسلام، يدع المحرمات ويأتي الفرائض، وأن يكون المال في يده لا في قلبه، ولا يكون اعتماده عليه، بل يكون اعتماده على ربه، وأن يكون رضا الله هو مقصده ومبتغاه. انتهى حديث الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، ورحم كل علمائنا الأجلاء. ولقد اقتبست هذا المقطع كاملا، بغرض أن يرى القارئ الكريم أن الرجل لم يذكر آية واحدة ولا حديثا.. ولكن جعل المستمع أو المشاهد يعود بقلبه وعقله إلى أكثر من آية وحديث.. فكل ما أورده الشيخ مسند ومأخوذ من الآيات والأحاديث.. ولكنه لم يقل رواه فلان عن علان.. ولم يدفع أحدا ليفسر آية على هواه أو يجتزئ الكلام من سياقه. وللأسف فإن كثيرا من أصحاب الفكر الضال في هذه الأيام يسلبون عقول أبنائنا، بل وبعض من بناتنا، بما تشابه وبما أريد به غير الحق. وربما أدرك الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.. وفي أعقاب الانقلاب الفاشل في تركيا.. خطر هذا الفكر وسوء مآله وعاقبته، فعمد من جملة ما عمد إلى إغلاق نحو ألف مدرسة، حين تأكد له أن منهجها ضال مضل، غرر بالناس فأوردهم موارد الهلاك، وكذلك فعل بعشرات المعاهد والكليات، وبمئات الأكاديميين والتربويين والمنظرين في التعليم وفي الإعلام، وكذلك في عالم المال والنفوذ. والحقيقة أن هذا الفكر إذا ما توارى عن الأنظار زمنا وهيأ لنفسه كل مقومات الانتشار والهيمنة فسيتحول، لا محالة، إلى خطر ماحق وكيان سامق. وبالمناسبة فقد أعجبت بفواصل القناة الإخبارية السعودية، عبارة عن استطلاع لرأي الناس حول ظاهرة الإرهاب، التي لم تعد واضحة في بلادنا فحسب، بل شملت أوروبا بشكل لافت ومتعدد الوسائل. وكان أجمل ما في الاستطلاعات، هو إجماع المشاهدين، سعوديين ومقيمين، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، على أن المسؤولية تقع في المقام الأول على الوالدين والأسرة، وتتلخص في ضرورة إرضاع الأطفال مبادئ الدين الإسلامي السمح مع الرضاعة الأولى، بالحب والحنان والرعاية والاهتمام، ثم تلقينهم هذه المبادئ بالتدريج مع السنوات التي تسبق المدرسة، وبعد المدرسة عليهم مراجعة أولادهم فيما اكتسبوه من ذهابهم إلى المدرسة أو المسجد، حتى يضمنوا خلو أذهانهم من ذرات هذا الفكر الضال وعدم السماح لأصحابه بأن يسلبوا منهم فلذات أكبادهم. ما أردت أن أجنيه من خلف اقتباسي لمقطع الشيخ الطنطاوي، أن بساطة الخطاب وسهولة الألفاظ وبشاشة المخاطِب في وجه المخاطَب هي من مقومات النصح وسلامة الإرشاد. فالدعوة إلى الله لا تتطلب العبوس والتكشير، بقدر ما تحتاج إلى اللين واللطف والتيسير. وختاما قال الشيخ الطنطاوي مرة لتلاميذه: لو جاءكم رجل أجنبي، فقال لكم: إن لديه ساعة من الزمن يريد أن يفهم فيها ما الإسلام، فكيف تفهمونه الإسلام في ساعة؟ قالوا: هذا مستحيل، ولا بد له أن يدرس التوحيد والتجويد، والتفسير والحديث والفقه والأصول، ويدخل في مشكلات ومسائل، لا يخرج منها في خمس سنين. قال الشيخ لتلاميذه: سبحان الله، أما كان الإعرابي يقدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيلبث عنده يوما أو بعض يوم، فيعرف الإسلام ويحمله إلى قومه فيكون لهم مرشدا ومعلما، ويكون للإسلام داعيا ومبلغا؟! وأبلغ من هذا، أما شرح الرسول، صلى الله عليه وسلم، الدين كله في حديث (سؤال جبريل) بثلاث جمل، تكلم فيها عن: الإيمان، والإسلام، والإحسان؟ فلماذا لا نشرح الإسلام اليوم في ساعة؟!