الرأي

من حلم «الدنينا إلى الجنينا»

شاهر النهاري
ضمت السهرة عددا من الأشخاص ممن تجاوزوا الستين عاما بحلوها ومرها، وكانوا يتكلمون عن المفارقات العجيبة بين ما شهدوه في طفولتهم، ومرورا بشبابهم، حتى بلغوا مرتبة الأجداد، حكايات وبسمات وتعريج على مفارقات ومقارنات بين ظروف وشخوص الأيام القديمة، وتطلعاتهم، وأحلامهم، وبين تدرج وتحور وانزواء أو امتداد وازدهار في قدراتهم على التكيف مع مفارقات عصر وحميمية عصر.

كم هو عسير أن تصور تشرنق فكرك في زمن نقص الرؤى والإمكانيات والوسائل والتقنية، ومدى تأثرك بما كان بين يديك وما حولك وما تدرك، وما تسمع عنه في الغيب.

تكلم أحدهم، وقال إنه كان كغيره من أطفال ذلك الزمان يعتقد بأن «الدنينا» وهي «إطار عجلة دراجة معدني منفرد مستهلك مفكك، وبدون لستك، ولا أسياخ» ظل أمنية له لم تتحقق طوال فترة طفولته، نظرا لحالة أسرته المستورة، وحاجة والده لجهوده في حرث الزرع، ورعي الماشية، ولكنه ظل يحلم في لحظات خلوته بالمستحيل، فما أروع أن يجري حافي القدمين خلف الدنينا وهي تدور أمامه بصوتها الحاد اللافت للأنظار، وهو بكل فخر يزيد من سرعتها ويتحكم بخط سيرها، بسيخ صغير يمثل يد التحكم.

تكلم وسط فيضان بسماته، وعيناه تغيبان في دمعة حنين، وهو يشرح الحلم الطفولي اللذيذ، فكأنه ينظر في فجوة زمن سحيق، يمنيه ولو لحظات بالهروب من زمنه الحالي، الذي نعته بالجنينا!

واتجهت له الأنظار وتعالت الطلبات بتفسير هذه الجنينا، فأخرج هاتفه من جيبه، مشيرا إلى ما يتمتع به صغار اليوم من تقنية وأجهزة وبرامج تعلت بهم قمم الجنون، واللعب مع أقرانهم على مدى الكرة الأرضية، وتكريس مفهوم المعجزات والخيال المتحقق بما يمتلكون ويلعبون، دون الإمساك بسيخ، أو الاضطرار للجري بقدم حافية خلف عجلة الدنينا.

جيل الطيبين وجدوا مجريات أعمارهم تنحصر بين الدنينا والجنينا، بتدرج مخيلاتهم وبما تعلموا، واكتشفوا، وامتلكوا، ليظل بأجوافهم حنين رغبة التمتع بجولة دنينا، يحققون بها قدرات تحكمهم بما يلعبون به متمايلين بين السائرين، بحرفية تجعلهم يعبرون من أضيق الأمكنة، دون أن يصطدموا بأحد، ودون أن توقفهم صرخة من بيت الأهل، أو صفعة من غريب ظن أن الدنينا تهدد كعب قدمه.

صحيح أن صاحبنا لم يمتلك الدنينا في صغره، ولكنه كان يحصل على دورات مجانية سريعة، من صديقه مالك الدنينا، الذي كان يجود عليه بقليل مما ينعم به.

لقد أكد بكلماته الحميمة براءة ذلك الزمن، وأنه كان يشعر خلال تحريك الدنينا بنفس مشاعر الطفل الحالي، وهو يلعب بشاشات ذكية، يضغط فوقها على مختلف الأيقونات، ليلمس أطراف العالم، قبل أن يرتد إليه طرفه، مستحضرا القدرة، يعاند هذا ويخبط ذاك، ويصادق هذا، ويسبق القفزات.

الخيال نعمة متجددة يعيشها الفرد، بقدر ما يرى ويمتلك، وقدر ما يتفاقم جموحا حتى يبلغ الجنون، ويبتلع الأفكار، ويرسم شخصه بين أقرانه.

ليست الدنينا منقصة، ولا الجنينا الحالية قمة التعلم والتطور بذاتها، وما يهم هو ذلك الإنسان المكون من جينات الرغبة والوجود، وحب التملك والاستكشاف، والقدرة على التكيف، وبلوغ المتعة بأقل الموجود، والتصالح مع النفس، والظرف، والكون، واليقين بأن الطيبين موجودون في كل زمان مهما تقادموا، ويظلون يترقون ويحلمون، بتدرج وطموح خيالاتهم من الدنينا إلى منتهى الجنينا.

@shaheralnahari