الرأي

بِرّ الوالدين حين يَفْسُد التحلي به

أحمد بني قيس
من دلائل عِظَم البرّ بالوالدين عند الله سبحانه أنه قَرَن الدعوة إلى توحيده ببِرِّ الوالدين والإحسان إليهما والدليل قول الله عزَّ وجلّ في كتابه الكريم: (واعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) وأيضا ورد في هذا الحال قول الله سبحانه: (وقضى ربُّكَ ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) ومن الأحاديث النبوية الواردة في التحذير من عقوق الوالدين قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (اثنان يُعجِّلهُما الله في الدُنيا: البغي وعقوق الوالدين) وقوله: (كُلُّ الذنوب يؤخرُ الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين).

إن تعريف بِرّ الوالدين بصفة عامة هو الإحسان إليهما بالقول والفعل تقربا من الله عزَّ وجلّ، حيث أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان بطاعة والديه والبر بهما وعدم عصيان أوامرهما على الإطلاق شريطة ألا تكن هذه الأوامر أوامر تُغضب الله، وذلك لدور الأبوين الكبير في حياة الإنسان ومن طرق البر بالوالدين مثلا تقديم الطاعة لهما في مُختلف الأمور ما عدا الشرك بالله طبعا وأيضا تلبية كل احتياجاتهما وعدم رفض أوامرهما والأهم من ذلك تقديم الرعاية لهما عندما يتقدمان بالعمر وإدخال السرور على قلبيهما وتجنب ذكر ما يزعجهما، وأخيرا وهو مطلب يسير ولكن مردوده عظيم يتمثل في الدعاء لهما في الدنيا، والتصدّق عنهما بعد الوفاة.

لكن هذه الشعبة الإيمانية العظيمة المتعلقة ببر الوالدين لم يشرعها الله إلا تعظيما للحق وإصلاحا للنفوس وهداية للمجتمعات، ولكن تعطُب الفائدة منها وتفسد إذا رأيناها تتسبب فيما يتعارض مع ما شرعت لأجله حينها وجب أن نوقن بأن ذلك ما كان ليكون قط لولا الخطأ في فهمها أو الخلل في ممارستها وقد يظن القارئ بأن المقصود بالخلل الذي أشير إليه هو طاعتهما في معصية الله وهذا رغم صحة ضرر القبول به إلا أنه من شدة وضوح ضرره نادرا ما يتم الوقوع فيه ونادرا أيضا ما يتم السكوت عنه أو الرضا به.

إن ما أقصده بإفساد بر الوالدين دون قصد وجود ممارسات يظن صاحبها أنه إذا قام بها فإنه قد قام بواجب البر المأمول منه ومن بين هذه الممارسات إطلاق وعود للوالدين ربما يتوهم مُطلقها في حينه أن بإمكانه تنفيذها وتطبيقها لمدة طويلة إلا أن الواقع وطبيعة الحياة تقول بأنه مهما طالت مدة الالتزام بهذه الوعود فسيأتي يوم يجعل الاستمرار فيها محالا ليس عن عدم رغبة وإنما عن عدم قدرة ممّا يتسبب في أضرار لم يكن مُطلق الوعود يتوقع حدوثها أو التعرض لها فيقع حينها بين نارين نار عدم قدرته على الوفاء بما وعد به وبين نار الحفاظ على أسرته المصغرة وتلبية متطلباتها وحاجياتها، ويحضرني في هذا الحال قول ينطبق على ما أشرت إليه تماما وهو: «إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع» ولعلي أردفها بقول «لا تمنح وعودا لا تستطيع الوفاء بها حتى لا يكون ضررها عليك أكبر من نفعها لك».

ومثل هذه الإشكالية من الطبيعي أن تتسبب في تداعيات تنعكس سلبا على وحدة وتماسك بنية الأسرة، حيث من الممكن أن تتسبب في تبادل اللوم بين أفرادها واتهام بعضهم البعض بالتسبب في حدوثها والأدهى والأمرّ من ذلك حدوث تنصل من قبل بعض أفرادها عن محاولة معالجة هذه السلبية بدافع اقتناعهم بأنهم ليسوا المتسببين فيها فتجعلهم هذه القناعة يتجنبون تماما التدخل في محاولة حلها ومحاولة علاج ما يمكن علاجه طالما أن الوالدين ما زالا على قيد الحياة جاهلين بأن الندم ولوم الذات على عدم التدخل بعد أن يأخذ الله وداعته وينتقل والداهما إلى الرفيق الأعلى ندم لا يمكن وصفه أو تصوره هذا طبعا إن عاد إليهم صوابهم وأدركوا مدى الضرر الذي تسبب فيه تقليلهم لحجم تلك الإشكالية أو حتى تهربهم من حلها لأسباب لا يُدرك حجم صغرها وقلة أهميتها إلا بعد فوات الأوان.

أخيرا أقول بأن التقرب إلى الله ببر الوالدين أمر أجره عظيم وأثره جليل شريطة أن يلتزم الجميع بأحكامه وضوابطه ولعل أهم ضابط بعد عدم الشرك بالله إدراك قيمة هذا البر وأهميته وكيف أنه يعلو على مختلف مناشط الحياة الأسرية أو العملية ولا تعلو عليه؛ لأن عدم العمل بذلك أضراره جسيمة وتبعاته خطيرة وقد تمتد لأجيال قادمة عند من يحملون الكثير من الاهتمام ببر الوالدين وتعظيم شأنه حتى وإن ظن المقصرون دون تعمد أو تقصّد منهم أنهم يحسنون صنعا.

ahmedbingroush@