الرأي

جدة التاريخية وهوية المكان

زيد الفضيل
مع تدشين مدينة جدة القديمة بأحيائها الأربعة، وهي حارة البحر ثم اليمن فالمظلوم وصولا إلى الشام، والمحاطة سابقا بسور مشرعة أبوابه والقائم بعض أثره حتى اليوم كباب شريف وباب مكة وباب جديد وباب البنط، والإقرار بكونها إحدى المدن التاريخية المعترف بها في قائمة التراث العالمي لدى المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، فقد أصبحت مدينة خارج سياق الواقع المعاصر، بمعنى أنها قد دخلت ضمن قوانين وأحكام الشاهد التاريخي، وباتت مرتبطة بسياقه الزمني بشكل كبير. وبالتالي فلا يصح التدليس أو السطو على أي معلومة تاريخية متعلقة بالمكان ومرتبطة بهوية أصحابها المؤسسين، سواء بإغفال تلك المعلومة أو استبدالها بمعلومة أخرى تحت أي ظرف ولأي سبب كان، فالأمانة العلمية تقتضي حفظ الحقوق المعنوية والعلمية لمن أسس وبنى بمنأى عن وجوده وانتمائه وذريته للموقع حاليا.

وواقع الحال فقد كان ذلك هو ما حرصت عليه الحكومة السعودية منذ الابتداء، التي لم تعمد إلى تغيير شخصية المكان، ولم تستهدف طمس ما هو متوجب من حقوق معنوية وعلمية قائمة في حق عدد من البيوت التي باتت تاريخية بحكم التقادم الزمني، علما بأنها قد خرجت بالبيع والشراء من حكم أصحابها المؤسسين إلى حكم الدولة، وذلك إيمانا من رجالها بأهمية الحفاظ على الأمانة العلمية أولا، وإدراكهم لوجوب المحافظة على هوية وشخصية المكان.

ولعلي أدلل على ذلك بشاخصين تاريخيين معروفين وهما: «قصر شبرا» بالطائف الذي آل بالشراء العادل والمجزي للدولة، وولد فيه عدد من أبناء الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وبات مرتبطا بتاريخ المملكة العربية السعودية، ومع ذلك فلا يزال اسمه «قصر شبرا التاريخي» الذي بناه الشريف علي بن عبدالله باشا حاكم الحجاز في العهد العثماني في الفترة من عام 1323هـ إلى 1326هـ. وكذلك الأمر مع بيت نصيف بحارة اليمن بجدة الذي سكنه الملك عبدالعزيز وأسرته واتخذه مقرا له، وصار مرتبطا بتاريخ المملكة الحديث، وآل أيضا بالشراء العادل والمجزي للدولة، ومع ذلك فلا يزال اسمه المعروف به حتى اليوم هو «بيت نصيف».

هذان الشاهدان الشاخصان يثبتان أن للموقع التاريخي هوية لا يصح طمسها، وشخصية هي أصل في تكوينها، وأن قيمة المكان من عمق هويته وأصالة شخصيته، ولذلك نجد في أوروبا العديد من القصور والبيوت التاريخية التي باتت في ملك معاصرين، ومنهم أغنياء عرب، ومع ذلك فلا يزال اسمها هو الاسم التاريخي الذي عرفت به، وتحتفظ بهويتها وشخصيتها العتيقة، وهو جزء من أصالة المكان، وأساس متين في حفاظه على قيمته التسويقية بعد ذلك، ناهيك عن قيمته المعنوية والتاريخية.

هذا المفهوم هو ما صرت أراه غائبا حال التعريف المعاصر بعدد من البيوت الشامخة ببنائها الهندسي الفريد بمدينة جدة التاريخية، وهو ما أرجو من وزارة الثقافة والهيئة المعنية بجدة التاريخية الانتباه لتصحيحه حفاظا على هوية وشخصية المكان، وأصالة وعمق البناء تاريخيا.

وأشير مثالا على ذلك بما يعرف حاليا باسم «بيت الشربتلي» في حارة الشام، وهو أحد البيوت العريقة والمتميزة بتخطيطها الهندسي، فهذا البيت قد آل بالشراء مؤخرا وبعد عدد من المشترين لأسرة الشربتلي، لكنه في أساسه ملك لصاحبه المؤسس وهو الشريف عبدالإله مهنا العبدلي، الذي شرع وأكمل البناء وسكن فيه، وليس كما توحي اللوحة التعريفية المكتوبة حديثا بأنه لم يكمل البناء حال قولهم «وقد شرع في عمارته مالكه الشريف عبدالإله.. مع بدايات القرن20م»، وبالتالي فالصحيح أن يسمى البيت باسم صاحبه المؤسس الذي بناه وعاش فيه واستضاف كبار الشخصيات العربية في وقته، حفاظا على هوية وشخصية المكان، واقتداء بما قامت به الدولة أيضا في المثالين السابقين.

والأمر يندرج أيضا على «بيت نور ولي» بحارة اليمن الذي ووفق إفادة الباحث محمد بن علي الحسني الشريف، قد اتخذه الملك عبدالعزيز مقرا لأسرته، فسكن فيه الأمير محمد وأخوه الملك خالد؛ والبيت في أساسه ليس لنور ولي، وإنما آل إليه مؤخرا بالشراء من أسرة بيت عاشور، الذين اشتروه من أسرة الصبان التي ينتمي إليها عبدالرؤوف صبان، وهم بدورهم قد اشتروه من مالكه الأساس وبانيه الأول، وهو أحد الأشراف الذي اضطر لرهنه في دين ثم باعه.

هذان نموذجان لحالة من الخلل التي تلبست هوية وشخصية مدينة جدة التاريخية، والأولى الحفاظ على تلك الهوية إيمانا بحق معنوي وعلمي، وتفعيلا لأمانة علمية واجبة الاستحقاق، وتعزيزا لقيمة المكان وعمقه التاريخي أيضا، ولسنا في ذلك بدعا، بل نحن مقتدون بإجراء قامت به دولتنا حفظها الله، وعُرف اجتماعي وعلمي متفق عليه عالميا، وهو ما أرجو أن تهتم له وزارة الثقافة ممثلة بهيئتها المعنية بجدة التاريخية، فهل يصل الصوت؟ هذا ما أرجوه والله المستعان.

zash113@