الرأي

أوقفوا العبث بحقيقة الهوية!

وحيد الغامدي
يبادر الخطاب الوعظي دائما برفع مفردة (الهوية) كشعار مكارثي في مواجهة كثير من المفاهيم ذات الضرورة الزمنية في المجالات الإنسانية والحقوقية والتنموية المتعددة، وحتى في مجالات الفنون والثقافة والفكر. الهوية المرفوعة هنا ليست أكثر من أدبيات مرحلة مضت تسيدت فيها قيم الرأي الواحد الرافض لغيره كل مفاصل الحياة العامة في مجتمعنا. وسنرى الآن ماهية تلك الهوية التي تتم المزايدة بشأنها دائما، وهل يمكن أن تهتز إن دخلنا في حالة تطور حقيقي في تلك المجالات؟ * الهوية الحقيقية لما قبل حقبة مرحلة الوعظ العشوائي كانت هي هوية الجزيرة العربية التي تجعل من المرأة عنصرا فاعلا في الحياة العامة، وليست (درة مغلفة) يجب أن يغطى حتى اسمها بالمواربات اللفظية المتعددة، كونها أصبحت نقطة قلق لا يهدأ في وجدان الفرد والمجتمع. لتنتقل كينونتها بعد ذلك من كونها مخلوقا طبيعيا يؤدي وظيفته الوجودية إلى مخلوق يشكل أزمة معقدة، تزداد تعقيداتها كلما استمرت لهجة المزايدة على قيم الفضيلة. تلك الأزمة تكمن في كيفية مواراة هذا المخلوق وإبعاده قدر المستطاع عن الشأن العام. وهذا عبث صريح بحقيقة الهوية، وحقيقة الفطرة الإنسانية كما هي عبر التاريخ. * الهوية الحقيقية التي نعرفها عن إنسان هذه الأرض أنه كريم لا يسأل من هو ضيفه الذي يحل به، لكننا رأينا لاحقا كيف أصبح البعض يطالب بطرد إنسان يحل بهم لأنه يختلف عنهم بأشكال الاختلاف المتعددة من مذهبية أو فكرية. تلك الصورة من المزايدات المتضخمة على حراسة الدين والهوية والعقيدة أنتجت مخرجاتها الأخلاقية الانقلابية على أخلاقيات الأجداد وكرمهم وشيمهم وشهامتهم و(هويتهم)، وهذا عبث صريح بحقيقة الهوية. * الهوية الحقيقية كانت تجعل الأجداد يغنون ويرقصون، الفلاحون والرعاة كانت أغانيهم إعلانا لتحدي الطبيعة القاسية، فإذا جد الجد حملوا أرواحهم على فوهات البنادق، فلا يخلطون بين الأمور، ويمارسون حياتهم الفطرية والإنسانية على أكمل وجه، في حين أن بعض أبنائهم من مناصري (الهوية المفتعلة) الميتة يريدون إغلاق منافذ الحياة مع (العذر) الطارئ وهو الحرب على الحدود. ونعلم تمام العلم أنه لو لم تكن هناك حرب لاختلقوا أعذارا أخرى تتعلق بمآسي المسلمين في أنحاء العالم وهكذا، وهذا أيضا عبث بحقيقة الهوية وحقيقة الحرب وحقيقة الإنسان وحقيقة الحياة على السواء. * الهوية الحقيقية أيضا دفعت بأجدادنا إلى رفض الاستعمار العثماني ومقاومته، والتاريخ يشهد كيف طحنت القبائل الجنود العثمانيين، قبل الثورة العربية الكبرى وبعدها أيضا، لكننا نرى للأسف بعض أحفادهم وكأنهم يريدون ترويج مفاهيم ذلك الاستعمار وإحياءه وإعادته، هياما بوهم الخلافة الذي يحظى بأولوية تعلو أولويات الوطن والأرض والوجدان التاريخي الجريح. وهذا أيضا عبث بحقيقة الهوية، وحقيقة النبض الذي يجري في عروق هذه الأرض. الكثير والكثير من العبث الذي يجري على الهوية باسم الهوية. هوية هذه الأرض، وكي تبقى متدفقة في وجدان الأجيال، يجب أن تتوقف تلك المزايدة العشوائية بشأنها. يجب أن تتوقف حالة الاستثمار في القيم بهدف الوصول للجماهير. وإذا كان قد نجح بعض ذلك الاستثمار في فترات سابقة فإن الأجيال الجديدة لن تنطلي عليها تلك الاستراتيجية من جديد، وستسعى لاستعادة هويتها الحقيقية المليئة بالمعاني الإنسانية الناصعة. waheed@makkahnp.com