الرأي

اسْتفتِ قلبك

زيد الفضيل
جاء في تعريف الفقه بأنه «العلم بالأحكام الشرعية العملية» أي الأحكام والمسائل التي جاء في بيانها وحي من الله ثمَّ استنبط منها المجتهدون وأهل الإفتاء أحكاما تتعلق بالعباد وما يصدر عنهم من أفعال أو أقوال ومعاملات، ويندرج كل ذلك في أحكام العبادات، وأحكام المعاملات.

وقد تميز الفقه الإسلامي بخصائص متفردة مقارنة بغيره من الأحكام والقوانين المتعارف عليها، إذ مرجعه وحي من الله العالم بأحوال خلقه واحتياجاتهم، وهو ما يفرض على جمهور الفقهاء أن يتعاملوا مع النازلة الشرعية وفق ظرفها وزمانها ومكانها، ليجاري الحكم الفقهي المستمد مشروعيته من كتاب الله وسنة نبيه كلّ زمان ومكان، أخذا بالاعتبار الغاية الربانية الكبرى الهادفة إلى مراعاة حاجات الناس، والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم، مصداقا لقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وقول رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا».

والسؤال: هل تحقق في الوقت الراهن منظومتنا الفقهية المتوارثة هذه الغاية الربانية القاضية بالتيسير؟ وهل تجاري واقع الحياة المعاصرة بما يعتريها من تسارع وتغير في طبيعة الزمان والمكان؟

واقع الحال فإن منظومتنا الفقهية التراثية قد حققت المراد بنسبة غالبة بالنظر إلى عصرها الذي كتبت فيه، لكنها ليست نصا مقدسا يجب الأخذ به في كل وقت وحين، واجتهادات فقهاء تلك المرحلة ليس حكما قطعيا يجب اتباعه، فكل منا يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا صاحب هذا المقام وفق قول الإمام مالك بن أنس -يرحمه الله-، وبالتالي فليس بالضرورة أن تلبي تلك الأحكام المحفوظة في مدونات الفقه التراثية التي تم تدوينها في قرون سالفة وفق اجتهاد مؤلفيها، وفهمهم للنص، ورؤيتهم في طبيعة النازلة الفقهية وفق ظرفهم المكاني والزماني، ليس بالضرورة أن تلبي حاجاتنا المعاصرة، وتتوافق مع طبيعة ظرفنا الزماني والمكاني، وبالتالي فلن تحقق بالمجمل مراد الله الأسمى القاضي بالتيسير على عباده.

أمام ذلك فلا بد من أن نتحرر من قيد تلك الأحكام، وينطلق الفقيه المعاصر في اجتهاد رأيه واستنباط فقه متوافق مع ظروف المرحلة وطبيعتها، وليس بالضرورة أيضا أن يكون اجتهاده مخالفا لما سبق، إذ ربما يكون معززا له وفق رأيه واجتهاده، على أن المهم أن يكون لدى الفقيه المعاصر رأي خاص به، وأن يخرج من دور الناقل والمردد لما سبق، وهو أحوج ما نحتاج إليه اليوم رحمة بالناس، ودرءا للفتنة.

أشير في هذا السياق إلى أني أقصد بالفقيه المعاصر ذلك المتخصص الدارس لعلوم الفقه وأصوله، وليس غيره من المفتئتين على التخصص الذين بات وجودهم ظاهرا، فتراهم وقد درسوا علوما غير شرعية، وتخصصوا في علوم علمية وإنسانية شتى، ثم تجدهم قد اخترقوا الميدان ونصبوا أنفسهم فقهاء ظنا منهم أن قراءةً هنا وهناك، وملازمة شيخ هنا وهناك، والاستماع لفقيه هنا وهناك، مع حرصهم على لبس زي المشايخ والعلماء، ستجعل منهم أئمة عصرهم، ومرجع زمانهم، ثم إذا طلب منهم الرأي تجدهم يلجؤون إلى تصفح تلك المدونات الفقهية التراثية ونقل ما فيها حذو القذة بالقذة، ودون أن يدركوا قواعد الاستنباط الشرعية، والقياس الفقهي المعتبر، وأن يعرفوا أهمية الحكم وفق ظروف النازلة الزماني والمكاني، وكيف لهم ذلك؟! وهم ممن غَرَفَ من فم القدر كما يقال، ولا علمَ لهم بدهاليز وأروقة الفقه وفق أصوله العلمية المعتمدة لدى أصحابها.

وكان من جراء ذلك أن تجدهم وقد تشددوا في مواضع التيسير، وتخففوا في مواضع الكمال والالتزام، ولعمري فهذا ما نحن فيه اليوم للأسف الشديد.

أشير أيضا إلى أن مراتب الأحكام كما نص أهل الاختصاص خمسة، أولها الإباحة، إذ الأصل في الأشياء الإباحة، «فالحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه» كما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-؛ يليه الوجوب وهو ما نص به الشرع على وجه الإلزام، ثم المستحبّ أو المندوب وهو ما أمر به الشرع دون إلزام، ثم المحرّم وهو كل ما نهى عنه الشرع على وجه الإلزام، وأمر بتركه، ثم الكراهة وهو ما نهى عنه الشرع دون إلزام، وهو على قسمين: كراهة تحريم أي فيه شبه تحريم، وكراهة تنزيه أي تتنزه النفس عن فعله.

وعليه فالتحريم والكراهة ليسا هما القاعدة الرئيسة في منظومتنا الحياتية، لكن قصور وعي وفهم وإدراك أولئك المتفيقهين قد جعله أولا حال تصديهم لإجابة سائل أراد الخلوص والنجاة، فهلك وهو من الناجين. ولأولئك الراغبين في خلاص أنفسهم أقول لهم بما قاله نبينا المنزل رحمة للعالمين: «استفت قلبك، فالبر ما اطمأَنت إليه النفس، والإِثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وَأفتوك».

zash113@