الرأي

ورحل غازي علي يا وزير الثقافة

زيد الفضيل
غادرنا بهدوء كما عاش معنا بهدوء، لم يحب أن يزعج أحدا، ولم يكن بحاجة وهو يغادر إلى تلك الصور التي كان يلتقطها كثير من زواره والتي ما كان يأنس لها في قرارة نفسه حتى لو ابتسم ورحب، إذ كان يشعر بأنه قد بات تحفة تذكارية مع كل صورة تؤخذ ولا سيما مع مرضه الذي أقعده ولازمه طويلا، لكنه وبالرغم من انزعاجه الداخلي من هذه الكوميديا السوداء، لم يكن يرفض أن يتصور مع أي أحد يزوره، إذ ما جبلت نفسه الرقيقة على أن تصد أحدا أيا كان ذلك الأحد.

إيه أيها الفنان الرقيق الذي عاش بصمت وذهب بصمت، فعلى الرغم من كل الضيق المالي الذي كان يعيشه؛ لكنه لم يكن ليجأر بصوته إلا لله، وكنت أراه باسما عارضا ما يعنُّ له حال سؤالي عن أحواله بصبر المتوكلين، فكم كانت نفسه أبية لا تقبل أن تستكين بضعف لأحد، ولم تكن لوامة كذلك، فما أكثر ما كان يقدمه من أعذار للآخرين حال حديثي معه، وتلك من سمات النفس الصافية التي ولد وعاش ومات بها، فطوبى له حاضرا وغائبا، ورحمة الله تغشاه دائما وأبدا.

أذكر حين أتيت إليه أول مرة قبل عشر سنوات، وكنت متلمسا لحقيقة روحه الإنسانية عبر ما سمعته من صديقه الراحل سامي خميس الذي رافقه زمنا غير قليل، وكان معه لحظة بلحظة في إنتاج مجموعته الموسيقية «إشراق»، تلك التي تحتوي على اثنتي عشرة مقطوعة موسيقية خالدة بخلود هذه الأرض الغالية؛ قابلني بكل ترحاب، باشا هاشا في وجهي ودون أن يعرف من أكون. أخذ يحدثني حديث الصديق الصدوق، ولا أعلم ما إذا كان ذلك نابعا من تلاقي روحينا فالأرواح جنود مجندة، أم هي عادته مع كل أحد، على أني أجزم بأن رابطا خاصا جمع بيني وبينه قوامه الحب والاحترام والتقدير وليس غيره، وركيزته ذلك الدعاء الذي كان يألفه ويرتاح لسماعه حين أتلوه على صدره وأختمه بسر أسرار الفاتحة، فتنجلي أساريره، ويشرق وجهه، ويشعر براحة بالغة، ويدرك أن الله قريب منه وأنه رحيم بعباده، وما أجمله من إحساس يغمر كل أحد في كل وقت وحين، فسبحان الله الودود الرحيم الغفار ما دام في الوجود نفس، وما علت الطيور في السماء.

إيه أبا هادي، واسمح لي بأن أناديك بذلك فقد كان «هادي» لك الابن الذي لم تنجب، وكنت له الأب الذي أردت أن تكونه؛ في هذه اللحظة الفارقة أذكر كيف وافقت على مرافقتي إلى استديو إذاعة جدة قبل ثماني سنوات تقريبا لبث حوار مباشر في برنامجي «مدارات» وكنتَ في حينه تؤثر الاحتجاب، وترفض الظهور، إحساسا منك بأن القوم قد نسوك في غفلة من الزمن، وأصدقك القول بأنه شعور مخيف يرهق النفس حين يسيطر عليها، لكنك وفي غمرة كل ذلك استجبت لرغبتي وأكرمتني بالرفقة الطيبة ذهابا وإيابا، فكان حديثا ماتعا رقراقا مطعما ببعض موسيقاك وألحانك الجميلة ومنها تلك الأغنية التي انجذب إليها قلبي وكانت بعنوان «ريحيني»، وكنت تطرب لسماعها كلما ركبت معي، وتتمايل وأنت تشدو بها وكأنك تسمعها مثلي لأول مرة.

إيه غازي علي، كم رجوت أن تكون معي وأنا أستشهد ببعض ألحانك الخالدة في محاضرتي الفائتة بمعرض الكتاب والتي رجوت فيها وزير الثقافة وهيئة الموسيقى لتكريمك بما تستحق، وأن يتم تبني بعض مشاريعك، وأن ننشئ جيلا من الموسيقيين الشباب متشربا بموسيقاك، تلك التي استنبطتها من عمق تراثنا ووجداننا الشعبي، وكم أرجو الآن أن يتم ذلك وأن نشهد صرحا موسيقيا باسمك، ونرى مقطوعاتك الموسيقية وهي حية في نفوس أجيالنا الجديدة، سواء تلك التي تمكنت من إنتاجها أو التي وضعت أساسها ولم تجد المعين لإخراجها، تعزيزا لقيمة التراكم الثقافي الذي ننشده أولا، ووفاء لحق تستحقه من زمن بعيد.

أختم بعض بوحي إليك أيها الرقيق في مشاعره، الطيب في إحساسه، لأقول لك نم هانئا مطمئنا فأنت في كنف رحمن رحيم، غفار غفور، وأعدك باستمرار وصول أريج فاتحة الكتاب إليك في برزخك، ولن ينساك محبوك الصادقون وما أكثرهم، غير أن أحدهم ذلك الرائد في فنه ومعرفته الكاتب والمثقف الشامخ محمد القشعمي الذي حدثني بحب عنك قبل أيام قليلة، وأراني ما جمعه حولك في سفر جميل بجمال روحك ويستحق النشر الآن، فأرجو أن يبادر أبا يعرب إلى ذلك. كما أرجو أن تبادر الكاتبة إيمان أشقر إلى تنفيذ فكرتها التي وعدتك بها في حضوري، الهادفة إلى جمع تراثك المادي وغيره، وعرضه في مكان يستحق، وأرجو أن يكون ذلك في مدينة جدة التاريخية بدعم من وزارة الثقافة، فهل إلى ذلك سبيل؟

zash113@