الرأي

الطب النفسي بين التاريخ والحاضر

أحمد محمد الألمعي
رغم التطور الكبير في مجال الطب النفسي عبر العصور وتحقيق الكثير من الإنجازات في هذ المجال من خلال البحث العلمي وتطوير الكثير من أساليب التشخيص، والعلاج النفسي والدوائي التي أسهمت بشكل كبير في تحسن نتائج العلاج، لا يزال مجال الطب النفسي يحير الكثيرين من العامة ومصدرا لكثير من التكهنات، وتطور الطب النفسي من مجال للخزعبلات والممارسات الغامضة وفرت مساحة كبيرة لاستغلال المرضى من قبل الجهلة والمشعوذين، إلى مجال يرتكز على البحث العلمي والنتائج الملموسة التي يمكن قياسها بطريقة علمية؛ فكيف تطور هذ المجال لنصل إلى ما نحن فيه اليوم وما هي إسهامات العرب والمسلمين في هذ الحقل الهام؟

ارتكزت أساليب العلاج البدائية على فكرة أن سبب المرض النفسي هو المس أو الجن، ولهذا الاعتقاد جذور في كثير من الديانات خاصة في غياب الوعي، وما زلنا نعاني من هذه المشكلة حتى يومنا هذا، وتشير الأبحاث الأنثروبولوجية إلى وجود المرض العقلي في عصر ما قبل التاريخ، وقد تم استعمال طقوس معينة دينية أو تقليدية للعلاج كما أشارت فحوص الجماجم في الأبحاث الأثرية والتي تم اكتشاف فيها ثقوب عملت بهدف «إخراج الأرواح الشريرة»، ولجأ الصينيون والمصريون إلى الإيمان بالأرواح أو الآلهة ليفسروا عالمهم المادي من حولهم، والاعتقاد بالأرواح الشريرة والشياطين والمس من الجن لتفسير المرض، وأدت تلك الممارسات البدائية للعلاج إلى تفاقم حالة المرضى.

وفسر أطباء اليونان القدامى المرض النفسي بتأثير الآلهة وربطوها بالأساطير وهي جزء كبير من تلك الثقافة، وقام أبقراط باستخدام كلمة ميلانخوليا (Melancholia ) اللاتينية لوصف الاكتئاب بطريقة منهجية وعلمية، كما كان له إسهامات أخرى مهمة في مجال الطب القديم، أما علم النفس عند أفلاطون فقد ركز على أهمية القدسية؛ فالنفس العاقلة مقدسة والنفس غير العاقلة حيوانية فانية وهي مصدر كل النزاعات والمشاعر وسبب الجنون أو عدم اتزان العقل.

وفي القرن الثالث عشر أدى الصراع بين التفسيرات الدينية والدنيوية للإنسان والمرض إلى تناقضات كبيرة، وانعكست هذه التناقضات بصفة خاصة في تفسير العالم فريدريك الثاني الذي وضع أسس التعليم الطبي التي لا تزال قائمة حتى اليوم.

وفي القرن الخامس عشر الميلادي، بلغت سيطرة الأفكار الدينية على تفكير الأطباء والمشرعين في الغرب حد الذروة، وأصبحت «الحقائق» تقوم ليس على الملاحظة الدقيقة والتحليل الموضوعي، ولكن على الوثائق الدينية من قبيل مطرقة الساحرات (باللاتينية: Malleus Maleficarum) وهو كتاب تمخضت عنه حماسة الباحثين عن شياطين الجن ويمثل نهاية المكاسب السابقة التي تم إحرازها في مجال الطب النفسي، وكان كل تفسير غير ديني يلغى بحكم أنه «مناف للإيمان الصحيح ». ولا زلنا نرى تأثير هذ التفكير حتى يومنا هذ بين أوساط الفئات القليلة التعليم في المجتمعات المسلمة والعربية.

من وجهة نظر إسلامية، لم تستخدم كلمة «مجنون» في القرآن للإشارة إلى الشخص الذي فقد عقله أوالشخص الذهاني فقط، وجاء ذكرها خمس مرات في القرآن تفسيرا لكيفية إدراك الناس للرسل والأنبياء ﴿وما صاحبكم بِمجنون﴾. ويرجع أصل كلمة «مجنون» إلى كلمة «جن»، وكلمة «جن» في العربية لها مصدر واحد مع عدد من الكلمات الأخرى ذات المعاني المختلفة، مثل الإشارة إلى الشيء المستتر أو الخفي؛  فالجن أحد مخلوقات الله الخفية المستترة، والجنين مستتر داخل الرحم، والمجنون له ستار على عقله.

ويجب علينا تجنب الخلط بين الاعتقاد الخاطئ الحالي بأن المجنون هو من مسه الجن، ومفهوم العصور الوسطى عن الجنون؛ فالجن في الإسلام ليس بالضرورة شيطانا، أي ليس بالضرورة مرادفا للروح الشريرة دائما، بل هو روح خارج دائرة قوانين الطبيعة المحسوسة أقل منزلة من الملائكة، فبعض الجن مؤمن ويستمع إلى القرآن ويساعد في العدالة الإنسانية.

لقد ذكرت النفس 185 مرة في القرآن كمصطلح عام للوجود الإنساني، كجسد وسلوك ووجدان وتصرف، أي كوحدة نفسية جسمية كاملة، ولوحظ وجود توازن مثير بين مراحل التطور البشرى السبع كما ذكرت في الصوفية والتطور النفس جنسي طبقا لفرويد، وكذلك التطورالنفسي الاجتماعي طبقا للعالم أريكسون.

لقد دفع القرآن باعتباره قانونا دينيا جديدا، بالمسلمين إلى أسلوب جديد في الحياة استبدل بشكل جذري النمط الحضاري للفترة السابقة عليه، ومن وجهة نظر الطب النفسي نجد دلالة تاريخية مهمة في ذلك الجزء من القرآن، الذي يتناول تفسير يوسف لحلم فرعون عن السبع بقرات السمان والسبع بقرات العجاف، وكذلك نجد القرآن دقيقا حازما بشأن بعض المشكلات الطب نفسية مثل الانتحار؛ إذ يقرّ بوضوح: ﴿ولَا تقتلوا أَنفسَكمْ * إِن اللَّهَ كَانَ بكم رَحِيما﴾. كما أن القرآن نهى عن شرب الكحول وذكر الكثير من مساوئه في عدة مواقع.

وقد كان لتركيز الرسول على العلاقة بين العوامل النفسية والأمراض الجسمية أهمية خاصة، وقد اتضح ذلك جليا في قوله ما يفيد بأن الكروب المتراكمة تؤثر على وظائف الجسد وهناك مدرسة كاملة للطب النبوي يتم ممارستها حتى هذ اليوم.

وقد كان لتعاليم الرازي أعمق الأثر على الطب العربي والأوروبي، ومن أهم كتاباته «المنصوري» وكتاب «الحاوي»، ويتضمن الكتاب الأول وصفا لأنواع الأمزجة المختلفة، ويعتبر دليلا متكاملا في مجال الخلقة تدل على الخلق، أما كتاب «الحاوي» فيعتبر أكبر موسوعة طبية أصدرها طبيب عربي، وقد ترجمت إلى اللاتينية عام 1279م، ونشرت في عام 1486م، ويعتبر أول كتاب إكلينيكي  يعرض الشكاوى والأعراض والتشخيص التفريقي والعلاج المؤثر للمريض، وبعدها بنحو مائة عام، ظهر كتاب «القانون» لابن سينا، والذي يعتبر كتابا تعليميا يتميز بالتصنيف الأفضل والترتيب الذهني والتوجه المنطقي، وقد قدر له أن يمثل أساس التعليم الطبي في أوروبا لعدة قرون، وقد جاء بعد «القانون» عمل آخر لا يقل روعة، ألا وهو كتاب «الملكي» لعلي عباس الذي يعتبر مثل «الحاوي» للرازي عملا خالدا في مجال التنظير والممارسة في الطب.

ولا ننسى كيف أنشأ المسلمون في الأندلس المستشفيات بمواصفات معينه للتطبيب بما في ذلك العلاج النفسي.

بقي كثير من الأوروبيين يؤمنون بحقيقة المس من الجن وبوجود التحالف الخفي بين الإنسان والشيطان، ولكن في القرن الثامن عشر نشأت الرغبة في تصنيف الأمراض وشمل ذلك المرض النفسي؛ فقد قسم العالم جورج ستال المرض النفسي إلى نوع له أصل عضوي، وأنواع لها أصول وظيفية أو نفسية، ونشأ بعد ذلك الطب النفسي بوصفه فرعا متخصصا من دراسة الطب، وتم استحداث بعد ذلك عدة مدارس للعلاج النفسي بدأ باستعمال التنويم المغناطيسي، كما أنشأ العالم الفرنسي شاركوت مدير مدرسة سالبتريير التي عرف عنها تأكيدها للتفسيرات العضوية  والأمراض النفسية كمسببات للهستيريا، وأسهم بذلك في القضاء على التفكير الخرافي القائم على التطير الذي تميز به الاتجاه الشيطاني وذلك حين قدم تفسيرا سيكولوجيا لظاهرة المس، وقد أحدثت نظريات سيغموند فرويد عن العلاج التحليلي في نهاية القرن التاسع عشر ثورة كبيرة ارتكزت على النظرية النفس جنسية وارتباطها بالأمراض النفسية ودور مرحلة الطفولة في الشخصية والأمراض النفسية، تبع ذلك عدة مدارس للعلاج النفسي مثل العلاج السلوكي المعرفي ونظريات وأبحاث أثبت كثير منها أخطاء في نظريات فرويد.

في خمسينيات القرن الماضي تم تصنيع كثير من العقاقير الطبية النفسية التي أحدثت ثورة في الحقل النفسي كان أولها الكلوربرومازين وتبعه تطوير الكثير من العقاقير لعلاج عدة امراض نفسية مختلفة، واستغنى كثير من المرضى عن سنوات من العلاج النفسي في المصحات العقلية والملاجئ؛ فقد اختفت الأعراض المسببة في وجود العقاقير النفسيه، ونشأت فكرة عودة المرضى لمجتمعاتهم للعيش وإنشاء برامج لتأهيلهم للعمل. ولا أدل على هذ التأثير من مقال كتبه أحد الأطباء النفسيين عند اختراع عقار الريتالين لعلاج اضطراب فرط الحركه ونقص الانتباه «بأن العقار أغنى عن سنوات من العلاج النفسي في المستشفى وجيش من المعالجين»، وتم اكتشاف العلاج بالصدمات الكهربائية كأفضل علاج للاكتئاب الشديد ومن ثم العلاج بالموجات المغناطيسية.

وكنت شاهدا خلال أكثر من عشرين سنه أثناء تدريبي ومن ثم عملي كأستاذ مساعد في جامعة ييل في الولايات المتحده الأمريكية على كثير من هذه التحولات، وتأثيرها على المرضى وعلى أسلوب عملنا كأطباء نفسيين.

ولا يزال هذ الحقل يتطور في ظل كثير من الأبحاث والاكتشافات اليومية مثل التداخل بين الأمراض الطبية والعصبية مع الأمراض النفسية ومن المتوقع أن يكون للعلاج الجيني دور كبير على مدى العشرين سنة القادمة بتركيز كبير على أساليب العلاج البيولوجي الطبي.

@almaiahmad2