الرأي

أخلاق الفروسية في المجالات الأكاديمية

بندر الزهراني
لا أحد يريد هكذا دون أسباب أن يتصادم أو يتصارع مع أحد، سواء أكان ذلك مع شخص بعينه أو مع مجموعة أشخاص يمثلون كيانا معينا، لئلا يخسر، فلا أحد بالفطرة السوية يتمنى الخسارة أيا كانت، ولكن ليس كل أنواع التصادمات تقود إلى خسائر؛ فهناك تصادمات شيقة ومثيرة، وفي الوقت نفسه مثمرة ومفيدة، على سبيل المثال؛ الأفكار حينما تتصادم ينشأ على إثرها الحوار، وتصادم الموجات الصوتية يفتت حصوات الكلى، وكرات البلياردو عندما تتصادم تصيب الأهداف، والتصادم الأكاديمي شر لا بد منه، خاصة لمن يعتز بفكره وثقافته، ويجد في نفسه نزعة للحوار المتكافئ والاهتمام الناقد لكل ما يخص قضايا الشأن الأكاديمي.

أن تكون فارسا في الصراعات الأكاديمية فهذا أمر يعكس فروسيتك الحقيقية في الميدان، ويعطي للناس انطباعا لما هي عليه أخلاقك من فضل وسمو، وتصورا لما هي عليه قراراتك من قوة ورجاحة، والعكس صحيحا إذا ما كنت جبانا لا تستطيع المواجهة إلا من وراء جدر، وتختلف المعايير باختلاف الصراع وظروفه؛ فالمسألة هنا نسبة وتناسب، وسأعطيكم أمثلة حية وواقعية لصراعات أكاديمية كشفت جوانب من شخصيات كنا نظنها مبرأة من الخطأ والزلل حتى أظهرت الأيام عكس ذلك.

حادثة مضى عليها ما يزيد عن ربع قرن، لا تغيب عن أذهان كثير من المثقفين ومتتبعي الشأن الأكاديمي، حدثت في إحدى الجامعات المحلية، ومختصرها أن اللجنة العلمية بالجامعة أجازت منح الدكتوراه لأحد رواد المذهب الحداثي في الساحة المحلية آنذاك، ثم سحبت الدكتوراه منه لاحقا بقرار من مجلس الجامعة، والعذر الذي بنى عليه المجلس قراره مجموعة من المعايير والأنظمة واللوائح، استنبطها وفهمها كما أريد له، وبالرغم من استيفاء الأطروحة للشروط الفنية والعلمية -كما أقرت لجنة الحكم والمناقشة- إلا أن الصراع الأيدلوجي بين فئة متشددة في رؤيتها وبين الباحث ذو التوجهات الحداثية في فكره وثقافته كان هو محور التصادم الحقيقي.

ألم يكن الأولى بتلكم الفئة المتسلطة والمستحوذة على القرار الأكاديمي أن تبرز فروسيتها الأكاديمية وأخلاقها الأدبية وهي في أوج صراعها مع قلة قليلة من تيار ناشئ بدل استخدام سلطاتها الإدارية بشكل لا يعكس إلا ضعفها وهوانها! بمعنى آخر: ألم يكن بوسعها أن تتحلى بأخلاق الأكاديميين السامية، وتعطي مجالا واسعا للحوار والأخذ والرد!

ألم يكن بمقدور مجلس تلكم الجامعة بما له من رمزية أكاديمية وشمولية في اتخاذ القرار الإداري أن يستحضر -ولو من باب اعدلوا هو أقرب للتقوى- معنى الحرية الفكرية في البحث العلمي، لولا ضيق الأفق وضعف الحجة عند المواجهة!

هل يا ترى تغير الوضع في جامعاتنا عما كان عليه في السابق؟ أقصد هل سقطت مفاهيم كتلك التي تجيز للإدارات الجامعية استخدام السلطة الأكاديمية في مواجهة الخصوم، وإيذائهم تحت مظلتها، بغض النظر عن نوع ومستوى الخصومة!

الجواب -بكل بساطة- لا، لم يتغير شيء أبدا، وأبسط دليل على ذلك ما يثار هنا وهناك من مضايقات تصدر من إداريين لا يملكون من القوة معشار نيوتن (وحدة قياس القوة فيزيائيا) إلا الاستقواء بقوة المركز الوظيفي وتحت غطاء تفسيرات واستنباطات مجموعة المعايير واللوائح والأنظمة إياها، كتلك التي فصلت بالمقاس تفصيلا في حادثة الحداثي.

من وجهة نظري أن غياب الفروسية الأكاديمية عند بعض الإدارات الجامعية بشكل عام هو نتيجة طبيعية لوجود عناقيد من (الشللية) لا يربطها ببعضها البعض دين أو خلق أو عرف، لا يربطها إلا وإلا فقط رباط المصلحة الشخصية، ولولا هذا المرض العضال -أقصد الشللية- لما رأينا «ميديوقراطيا» أكاديميا بمنصب عميد كلية أو رئيس جامعة يحارب باللوائح والأنظمة عقول الفلاسفة.