«كليلة ودمنة».. العشب في خزائن ملك الهند
السوق
الاحد / 26 / شوال / 1437 هـ - 23:00 - الاحد 31 يوليو 2016 23:00
يحكى أن الحكيم برزويه جاء إلى الملك الفارسي كسرى أنوشروان وقال له: إني قرأت في كتاب هندي أن في جبال الهند عشبا إذا ركب منه دواء فنثر على ميت ارتد حيا. فجهزه أنوشروان وسيره إلى الهند.. وبعث معه كتابا إلى الملك، فلما أخذ الملك الهندي الهدايا وقرأ الكتاب جمع علماءه وسيرهم مع برزويه لطلب ذلك العشب في تلك الجبال. فجمعوا كل صنف من العشب وجربوه فما أحيا ميتا. فندم برزويه على ما كلف نفسه من عناء وسفر ومشقة، وتحير ماذا يقول للملك الذي أرسله. ثم سأل من كان معه من العلماء الهنود: أتعرفون في الهند من هو أعلم منكم؟ قالوا: نعم، شيخ يفضلنا علما ويكبرنا سنا، فلما جاءه وقص عليه القصص، قال الشيخ العالم: أما الجبال فهي العلوم، وأما الموتى فهم الجهال، وأما العشب فكتاب في خزائن ملك الهند يسمى «كليلة ودمنة» يحيي موتى الجهل، والذي ترجمه إلى اللغة العربية عبدالله بن المقفع، الذي ولد مجوسيا واعتنق الإسلام وعاصر الخلافة الأموية والعباسية.. وهو مفكر ومترجم درس الفارسية وتعلم العربية، وله في الكتب المنقولة ـ الأدب الكبير والأدب الصغير.
ولا بد أن الكثير منا يعرفون هذا الكتاب الذي يقع في أربعة عشر بابا، كل باب قائم بذاته، وفي كل باب مسألة وجوابها الذي وضع على لسان الحيوان، ويشتمل في عمومه على الجد والهزل واللهو والحكمة والفلسفة، فصار الحيوان لهوا وما ينطق به ويجيئ على لسانه حكمة وأدبا ومثلا.
وأذكر أنني تحدثت إليكم في مقال سابق عن الحكمة والأمثال في القرآن العظيم.. وكما نعرف فإن الحكمة في الدلالة والمفهوم هي العلم مع العمل. ولقد ورد مصطلح الحكمة في القرآن الكريم في ما يزيد على عشرين آية.. وينبغي الإشارة إلى أن الحكمة في الآيات الكريمة لها معنيان:
- النبوة بالنسبة للأنبياء: ورد في سورة النساء آية 45 (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما).
- المعرفة بالنسبة للإنسان: كما ورد في الآية 269 – البقرة: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا).
أما المثل، فلم تتعدد تعريفاته ودلالاته كما في الحكمة. والمثل في اللغة: هو الشيء الشبيه أو النظير، واصطلاحا هو قول مأثور، سائر، جار على ألسنة العامة والخاصة، يختصر مغزى حادثة ويوحي بها، وقد استخدمه الحكماء لسببين:
1. نزعته القصصية وما تثيره في النفس الإنسانية من تشويق وترغيب وجذب، فيغري بالاطلاع عليه، ليتحقق الانتفاع منه تلقائيا.
2. تسهيله الحكمة للعامة لفهمها ومن ثم الاعتبار بما توحي به وتقصده.
وإذا كان من علاقة بين الحكمة والمثل: فإن الحكمة هي المضمون والمثل هو البدن.
ولا بد أن أجيالا متعاقبة من العرب والمسلمين قد اطلعت وتأثرت بهذا الكتاب «كليلة ودمنة» منذ أن ترجمه وعمل مقدمته ابن المقفع في زمن الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور، الذي شهدت أيامه انطلاقة ورشة الترجمة المعهودة التي ارتقت بالمجتمع العباسي آنذاك إلى أفياء الحضارة والازدهار، من خلال التعرف على كافة الثقافات التي رفلت ببركة الإسلام.
ويبدو أنه من هنا جاء استخدامنا للطيور والحيوانات كوسيلة من وسائل التربية العائلية، فصار الثعلب مثالا للمكر والدهاء، وبالمناسبة فإن كليلة ودمنة وردا في الكتاب كثعلبين ماكرين.. وصار الأسد رمزا للسلطة والقوة، وصار الحمار عنوانا للبلاهة والغباء، مع أنه غير ذلك في الواقع، فالحمار إذا علمته طريقا لمرة أو مرتين صار يعرفه دون قيادة.. وإن كان قد ورد ذكره في القرآن في موقعين يؤكدان ما ينعته به البشر.. (كمثل الحمار يحمل أسفارا) وصارت مثلا للذي يحمل علما على ظهره أو في داخله ولا يعمل به أو لا يفهمه، (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير) وتضرب مثلا لكل ذي صوت غير حسن أو مستحب. ولكنه يبقى من الدواب التي خلقها الله وامتن بها على عباده: (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون). وكان المكيون يزينون الحمير في ما كان يعرف قديما بالركب.. حيث يتوجهون بها لزيارة المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى التسليم.. ولكنها بادت كبعض العادات التي أتى عليها التحديث. وبقي الطير عند الناس ذلك المراسل الذي يأتي بالأخبار من كل مكان.. على غرار ما ورد في القرآن الكريم عن هدهد سيدنا سليمان عليه وعلى أنبياء الله ورسله السلام.
ولقد لجأت كثير من الأسر إلى حكاية الطير الأخضر لتفاجئ الصغار بما ارتكبوه من أعمال أو أخطاء عليهم أن لا يرتكبوها من الأساس. وكنا نصدق حكاية الطير الأخضر هذه، وبالفعل نتوقف عن هذه الأعمال. وفي الحقيقة أنه لا يوجد طير أخضر ولا أزرق.. لكن حكمة الآباء والأمهات استخدمت هذه الحيلة الجميلة، حتى لا تقع الفتنة بين الإخوان أو الأخوات، الذين هم في الحقيقة من أبلغوا عنهم، وأراد الوالدان أن يحافظا على مشاعر الأخوة بين الجميع.. وأحيانا وبدون بلاغات أو وشايات، يحكيان للأولاد حكاية الطير الأخضر الذي شاهد ولد الجيران يفعل كذا وكذا.. وقال لأمه.. وأحيانا يستخدم الأهل فراستهم الفطرية إن توقعوا أمرا، فيجرون الحكاية على لسان الطير الأخضر.. ولما تطور الزمان وكبرت منظومات الإعلام في الدنيا كلها صارت كلمة «مصادرنا الخاصة» هي البديلة للطير الأخضر.. حماية لناقل الخبر أو راوي الحكاية، ولضمان استمرار تدفق المعلومات بانتظام وأمان.
ومن الأنواع الأدبية الأخرى التي لجأ إليها الحكماء، الخرافة؛ بعد ما تبين لهم أن الحكمة والموعظة أصبحتا ثقيلتين على الأسماع ونفر منهما الناس وأنفوا الإصغاء إليهما. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يرد الحوار في الخرافة أيضا على لسان الحيوان؟ وما الحكمة في ذلك؟ ويبدو أن هناك أكثر من سبب:
الأول: يعيش الحيوان سائر الأحوال النفسية التي يعيشها الإنسان، يفرح ويحزن، يغضب ويرضى، وما إلى ذلك..
الثاني: حملت الخرافة رسالة إلى الحكام، خاصة أيام التسلط والاستبداد عندما لم يكن أحد يتجرأ على انتقاد أعمالهم، فكان الهدف من الخرافة مزدوجا: يتوجه المصلح والواعظ بأفكاره، ويوصلها إلى حيث شاء من ناحية، ويأمن بطش الحكام وسخطهم وجورهم من ناحية ثانية.
وقد أورد كلاوستون Clouston في دائرة المعارف Chambers قصة اقتبسها من مؤرخ شرقي عاش في عهد حاكم ظالم: أن ذلك المؤرخ أثر في الحاكم من خلال قصة أوردها، مفادها أن وزيرا عاقلا لبقا قص على الحاكم أن بومة كانت في البصرة وأخرى كانت في الموصل، ورغبت الأولى منهما أن تزوج ابنها من بنت الثانية، فأجابتها بومة الموصل بالموافقة، شرط أن يكون المهر مائة قرية خراب، فأجابتها بومة البصرة: لا أستطيع أن أفعل ذلك الآن، لكن إذا أبقى الله الحاكم عاما آخر قدمت لك هذا المهر. فلما سمع الحاكم هذه القصة تأثر بها، وأمر في الحال أن تعمر كل القرى والمدن الخراب، ودرس حالة بلاده ليرفع مستوى الحياة عند شعبه، ليكون حكمه سهلا مرضيا.. آملا أن لا يتم زواج البوم.
ويقال إن الخرافة نشأت منذ القدم ومن غير الممكن معرفة جذورها وأصولها. ويقال إن خرافة هو شخص من بني عذرة أو من جهينة، اختطفه الجن ثم رجع إلى قومه.. فكان يحدث بأحاديث مما رأى يعجب منها الناس فكذبوه، فصار كل حديث من هذا النوع «خرافة».
ولم يفت أهلنا الأولون استخدام الخرافة من أجل تحذير أولادهم وللقضاء على شيء من تهورهم أحيانا، فكلنا خوفنا بالغولة أم عيون حمرا.. وكان من الأمثال السارية «مين يقول للغولة عينك حمرا»، وفي مكة كانت حكاية «النمنم» معروفة، وهى حكاية اخترعها الأهالي حتى لا يبعد الأطفال عن محيط الدار.. رغم أن ديارنا كلها كانت أمانا ونعيش في سلام بسبب ما كان يكتنف الأحياء والحارات القديمة من ترابط وحرص وعطف من الكبير على الصغير واحترام الصغير للكبير.. وما زلنا نحمد الله تعالى على ما تعيشه بلادنا وبيوتنا من أمن وأمان في هذا العهد الزاهر الميمون.. وما نحن فيه من خير ونعمة وترابط أسأل الله أن يديمه علينا.. وأن ينعم به على كافة أوطان العرب والمسلمين.