الرأي

كاتب الفكر ليس ككاتب الخبر

شاهر النهاري
للأسف الشديد، فإن مقال الفكر قد ذبل وتنحى في عموم الدول العربية، نظرا لعدة أسباب تتصدرها هيمنة التقنية بشكل مخيف، ما جعل كل من هب ودب يستطيع أن يكتب المقال، بمجرد تحويرات بسيطة على ما يجده متهيئا على مواقع الإنترنت.

الأغلبية العظمى من الكتاب حاليا يكتبون ما يسمى: مقال الخبر! ووسط التسارع في النشر، فما أن تنشر إحدى وكالات الأنباء خبرا معينا، إلا ويصبح المادة التي تسود في أوساط مقالات الصحفيين لفترة من الزمن تطول وتقصر حسب أهميتها.

والملاحظ أن ما ينشر من مقالات الكتاب متشابهة، لا تعدو كونها محاولات متنوعة لسرد نفس الأخبار، حسب وجهات أنظارهم وتوجهاتهم السياسية، ومساحات الحرية المعطاة لهم في بلدانهم، ويبقى الاختلاف شيئا فنيا ثانويا، لا يمكن التوقف عنده كثيرا، فالتشابه يكاد يقتل الفكر، ويصيب المخيلة بالفصام.

الفرق أصبح محصورا في العناوين والأدوات المستخدمة، ومهما بالغ الكاتب في الادعاء والأناقة واستخدام المفردات المميزة، وسبر أغوار الأدب والقصة واستخدام الكوميديا الساخرة، أو الربط بين ما يحدث وبين أقوال الفلاسفة والحكماء، والمقارنات بأحداث عالمية أو تاريخية، وواقعا أن أغلب الكتاب لديهم نفس الأدوات تزيد وتنقص، ليظهر الخبر على شكل مقال، يعتقد كاتبه أنه تاج على جبين الفكر، ورأي نابغي، بينما وحينما تبحث العين الحريصة في آلاف المقالات، تكتشف الاستنساخ، وروتينية الفكر، المستمر في التماهي.

كاتب الفكر الحقيقي المبتكر لم يعد يظهر للعين المجردة بين كتاب الخبر، ووفقا لهشاشة المعروض نضيع بين المرددين، والحكواتية. ومن يفكر بالخروج من الصندوق، سرعان ما يجد نفسه منبوذا، موصوما بالتعجرف وطرق الصعب، والاحتكاك بالأسلاك الشائكة، وربما لا يعود أحد ينشر له، كونه جالبا للصداع حسب مرئيات الرقابة، وما تفرضه سقوفها المتشرنقة، وخطوطها الحمراء اللزجة.

وهذا ما يفرض على بعض الأقلام الأمر الواقع، ومزاولة التحايل والتلون في الأسلوب، والتلاعب بعناوين المقالات، فلعلها تقترب من مزاج أجيال الإنترنت المولعة بصحافة «كلمتين وبس»، وعصرية تناول الأخبار إما مادحا مطبلا لمن صنع الخبر، أو بصب الغضب والنقد المجحف على الطرف البعيد، وبتوافق مع توجه حكومات ومؤسسات.

المقال الفكري مرقوب محاط بالخوف والتشكيك بينما يكون الخبري خفيف لطيف ترحب به جميع منصات وقنوات النشر، كونه لا يحتاج لفحص وتمحيص، ولا تستوقف الرقيب كل كلمة فيه، والكاتب له مجرد حامل للأسفار، بمعرفة أن القارئ يتعشق العناوين الرنانة، والهجمات المرتدة بأقدام حافية.

طبقات فوق طبقات على رأس كاتب الرأي يظل يصارعها ويحاول التغلب عليها، وبعد فشله في بلوغ الفكر الحر، يستسلم للوضع العام، ويشتري له طبلا، ويسير ضمن صفوف المادحين، الباحثين عن خبر جديد مفرح، يتسابق مع الآخرين في نكث خيوطه القديمة، وإعادة خياطتها بطريقة الكترونية جديدة، لا تظهر فيها أطراف الخيوط، ولا تبرز الأزرار، ولا تظهر مخابئ السحابات، وربما يزودها بشنطة وحزام من نفس الخام، ويطرز الكشكشة على ذيل الخبر.

كتاب الرأي في الزمن الجميل لم يكونوا بعيدين عن الأخبار، غير أن فكرهم النير يتحرك بحرية، ويظل يبحث، ويخترع، ويجرب، ويصارح، ويصدم، ويبرز العيوب، ولذلك وجدنا في عالمنا العربي طه حسين، ونجيب محفوظ، وميخائيل نعيمة، وغادة السمان، وجلال عامر، وفرج جودة، وغيرهم.

shaheralnahari@