الرأي

كارثة اختصرت قصة ومعاني الحياة

شاهر النهاري
باخرة الركاب تايتنك الإنجليزية الأعظم في حينها على وجه الأرض (المارد)، أبحرت أول وآخر مرة في 10 أبريل 1912 من لندن متجهة إلى نيويورك عبر المحيط الأطلسي؛ لتصطدم بعد أربعة أيام من انطلاقها بجبل جليدي قبل منتصف الليل، ما أدى إلى انشطارها وغرقها بالكامل بعد ساعتين ونصف، بتعداد ركاب 2223، نجا منهم فقط 706 أشخاص.

وتستمر من يومها الألغاز والتحقيقات والدراسات لتحديد أسباب ارتفاع تعداد الضحايا، من نقص قوارب النجاة، ونقص التدريب لعمليات الإخلاء والطوارئ، كما أن تباين أحوال الركاب من مليونيرات، إلى طبقات من العمالة ومحدودي الدخل، ووجود النساء والأطفال، وتعاظم الخوف في المحيط الشاسع المظلم، وبروز مشاعر البشرية بالغضب والأنانية وتخبط اتخاذ القرارات، وغياب العدالة أثناء التسابق والتدافع للهروب من السفينة ولو بالظلم والعنجهية والقسوة والرشوة، أو بالدعاء والاستسلام.

رؤية ورسالة السفينة القمة في الفخامة كانت مستقبلية، بحجم ملعبي كرة قدم، وارتفاع مبنى من أحد عشر طابقا، صممت وصنعت على أيدي أمهر علماء ومهندسي وحرفيي العالم الأكثر إبداعا وخبرة، واستخدم في تشييدها أحدث التقنيات المتقدمة حينذاك، بأحلام أن يجد فيها الراكب ما يفوق ثمن ركوبه، غنيا كان أو خادما وطباخا، أو من عمال النظافة، ولكنهم قارعوا فيها سواسية حب أنفاس الحياة وحتمية خوف الموت يخنقهم فوقها، وفي حشرة ممراتها وكبائن نومها المغمورة بأمواج صقيع المياه المالحة؛ فيندم ركاب حضروا بالصدفة، ويبكي فرحا من حجز تذكرته وتخلف عن الرحلة قبل الإبحار، وكم من قصص إنسانية وتخيلات عانقت أمواج الحب والغدر والشيطانية والعجب.

متعة ورفاهية سفينة الرقي، تحولت لمواجهة كابوس موت حتمي، بعد تشوق ومغامرة ودعايات تدشين بشرت بسفينة الحياة والسعادة، التي لا تغرق، ما جعل كارثتها صدمة عظمى على جميع الأصعدة الإعلامية والعلمية والسياحية.

في عين كارثة تايتنك تزاحمت جميع الأحوال النفسية والعقلية والأيدلوجية والمجاملات، والشطط، والخيانات، والإيثار، والعنصرية، والاحتقار، والحقد، والسرقة، والكذب، والتفرد بالنجاة، وصولا إلى قمة الرياء بعزف الموسيقى السيمفونية لتهدئة الأنفس فوق زلزال وحرائق ظهر السفينة المهتزة بعنف.

حتى السفينة، التي لمحت طلقات الاستغاثة، ولم تحضر كتبت تاريخا من خزي الأخلاق والمواثيق، وانعدام الإنسانية، على عكس السفينة (كارباثيا)، التي حضرت لتكتب الإيثار والرحمة والسلام.

هروب صاحب السفينة، وقبطانها مع أول زوارق الناجين من أجنحة الأثرياء، ترك الأسئلة العميقة في النفس البشرية، التي فقدت قيمها عند حافة الموت.

والعجيب أن الموت بعدها لم يثن البشرية عن الحلم والتعلم والتحسين، والعودة لتحدي الهائج العميق، بسفن أكثر حيطة، وعوامل نجاة تراكمية التجربة.

ولم لا؟ فكينونة الحياة تستمر، حتى وهي تدوس بأقدامها على أشلاء الموتى.

الفخامة لا تعني التمنع من الموت، وأصحاب الأحلام المتفردة قد يعندون ويفقدون كل شيء متشبثين بقشة عنجهية وصلف وتكلف يثبت الإعاقة أثناء مواجهة الحقيقة.

تايتنك حياة وموت وأسرار رقدت في وسط المحيط الأسود بهياكلها وتحفها وجماليات أيقوناتها، ولم يكتشف حطامها إلا بعد 73 سنة؛ لتبدأ حكايات فضول بشري أكثر تغورا وتشويقا وبحثا، تضاف لما كتب عنها من أشعار وروايات وتحقيقات، وما جسد حول مأساتها من فنون، وفيلم سينمائي إبداعي يظل علامة على قوة الإنسان، وتفرد حياة تايتنك وشموليتها، وهي تحكي قصة رؤية الإنسان على الأرض وحقيقته وسط طوفان الرغبة والخوف.

shaheralnahari@