الصاحب ساحب ولو بالخاطر!
السبت / 24 / شوال / 1442 هـ - 20:37 - السبت 5 يونيو 2021 20:37
في أحد اللقاءات العامة جمعتني المصادفة بشخصية أكاديمية من الرعيل الأول، وعقلية اقتصادية فذة، ورجل أعمال من طراز رفيع، كان حديثه ماتعا، وحميميا تجاه كل ما هو أكاديمي، وللوهلة الأولى ظننته كغيره من بعض الزملاء الأكاديميين قد اطلع على مقالاتي؛ فوجد فيها من الصراحة والمباشرة؛ وتغليب المصلحة العامة على الصمت والدبلوماسية في الكلام والمداهنة في النقد؛ ما جعله يتخذ جانبا مقابلا لي، لئلا نلتقي في الحديث فيتوقف حينئذ النقاش الماتع، لكنه لم يكن كذلك، بل كان صادقا في مشاعره، دقيقا في توصيفه للشأن الأكاديمي!
سألته عن سر تركه للجامعة مبكرا وتوجهه لقطاع التجارة والأعمال بالرغم من تميزه في الجامعة، وبالرغم من هذا الحب والشغف اللذين يبدوان في حديثه عن كل ما هو أكاديمي، فقال: وجدتها سقفا لطموحاتي، وكانت إجابته هذه صادمة لي، ومدعاة لطرح المزيد من التساؤلات، وكنت أقول في نفسي: يا ترى ما هذا الطموح الأعلى شأنا من التحليق في أجواء الفلسفة الفسيحة والغوص في أعماقها المثيرة! وما هذه القوة والجسارة في اتخاذ قرار كهذا، وفي زمن كانت جامعاتنا فيه معدودة، وفرص التوظيف فيها تنافسية وصعبة، وفي حالات كثيرة ربما كانت مستحيلة!
كان يحدثني عن أجواء الجامعة في زمانه، وكأنه كما لو كان بيننا اليوم؛ بيروقراطية مملة، ورتابة قاتلة للطموح، تفرد بالرأي، واستئثار بالقرارات، وحصر للتعيينات العليا في أفراد مجموعة متشابهة المصالح والأحلام، فسألته عن طموحه في تلك الفترة، فقال: كنت أطمح أن أكون رئيسا للقسم كي أغير سير عمله، وأجدد كل ما فيه من أنظمة، فكان لي ما أردت وأصبحت رئيسا للقسم في فترة وجيزة، ولكنني اصطدمت بعقول إدارية مؤطرة بأنظمة روتينية، كان من الصعوبة بمكان التأثير عليها أو اجتذابها لما أؤمن به من أفكار تطويرية ورؤى إدارية، ولم يكن أمامي من نافذة أتنفس من خلالها إلا مقابلة طلابي في قاعات الدراسة والانكباب في معملي على أبحاثي وتجاربي الكيميائية!
يقول: كنت منبهرا حد الإعجاب بعلماء الكيمياء في الغرب والشرق، وكنت أحلم أن أكون ندا لهم أو واحدا منهم، وأتوج يوما ما بجائزة نوبل في الكيمياء، ولما لاحظ علامات الدهشة والاستغراب ترتسم على ملامح وجهي قال مستدركا: أو على أقل تقدير أربي جيلا من الكيميائيين يخرج من بينهم كيميائي عظيم يحقق طموحي هذا، ثم أكمل يقول: ولأنني وجدت صعوبة آنذاك في تحقيق طموحي الأشبه بالخيال غير الممكن بدأت أبحث عن البدائل، فقررت أن أخرج من الجامعة، فربما تغيرت الأحوال الإدارية من بعدي، وربما جاء من هم أفضل مني علما وأكثر صبرا وتحققت معهم الآمال والطموحات.
ومن المقاربات وتوارد الخواطر والأفكار في ما بيننا أنني منذ مدة اقترحت على عميد كلية العلوم، وهو كيمحيوي معروف وإداري متمرس: أن يضع في بهو وممرات الكلية صورا لعلماء في الكيمياء والفيزياء والرياضيات نالوا جائزة نوبل أو جائزة الملك فيصل في العلوم، فلعل صورة أو كلمة في السجل التعريفي لواحد من أولئك العلماء العظماء ترسخ في ذهن طالب عبقري فيقتدي به يوما من الأيام، إلا أن جدران كليتنا إلى وقتنا الحاضر وإلى ماشاء الله جدران خرسانية موحشة، صامتة لا روح فيها ولا حياة!
من المفارقات العجيبة أن رجل الأعمال هذا رغم تركه للجامعة وابتعاده عن البحث العلمي لكنه ما زال متابعا جيدا لأخبار الباحثين ولما يشاع من مبالغات عن أنشطتهم البحثية، حيث سألني ضاحكا مستبشرا عن حقيقة نشر بعض الباحثين المحليين أربعة أبحاث في اليوم الواحد، فقلت له مازحا: ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل، ثم قلت: لو صدقوا فيما فعلوا لحققوا طموحك وحازوا جائزة نوبل، ولكنا -أنا وأنت- أول المحتفلين بهم! فضحك ساخرا وأكمل ارتشاف فنجان قهوته!
ومن المفارقات أيضا أنني غردت بشيء من هذه القصة على «تويتر» فعلق عليها أحد الأكاديميين المعروفين بقوله: طموحات صاحبك إدارية أو تنفيذية أو تجارية، والجامعة ميدان للبحث والعلم والتعلم، وعلى أن كلمة «ميدان» تعطي دلالات كثيرة منها على سبيل المثال: التحدي والمنافسة، وأخلاق الفروسية الراقية، وسعة المجال واتساع أفق ورقعة النقاش والحوار، إلا أن واقع بعض جامعات اليوم ليس كذلك، إطلاقا، وعلى أية حال وددت لو أن صاحبي هذا أو أي صاحب بالجنب أو بالخاطر أو بأي شيء آخر يستطيع أن يسحبني معه إلى عالم هو الأكبر ميدانا والأكثر تحديا وإغراء، فالصاحب كما يقال ساحب!
drbmaz@
سألته عن سر تركه للجامعة مبكرا وتوجهه لقطاع التجارة والأعمال بالرغم من تميزه في الجامعة، وبالرغم من هذا الحب والشغف اللذين يبدوان في حديثه عن كل ما هو أكاديمي، فقال: وجدتها سقفا لطموحاتي، وكانت إجابته هذه صادمة لي، ومدعاة لطرح المزيد من التساؤلات، وكنت أقول في نفسي: يا ترى ما هذا الطموح الأعلى شأنا من التحليق في أجواء الفلسفة الفسيحة والغوص في أعماقها المثيرة! وما هذه القوة والجسارة في اتخاذ قرار كهذا، وفي زمن كانت جامعاتنا فيه معدودة، وفرص التوظيف فيها تنافسية وصعبة، وفي حالات كثيرة ربما كانت مستحيلة!
كان يحدثني عن أجواء الجامعة في زمانه، وكأنه كما لو كان بيننا اليوم؛ بيروقراطية مملة، ورتابة قاتلة للطموح، تفرد بالرأي، واستئثار بالقرارات، وحصر للتعيينات العليا في أفراد مجموعة متشابهة المصالح والأحلام، فسألته عن طموحه في تلك الفترة، فقال: كنت أطمح أن أكون رئيسا للقسم كي أغير سير عمله، وأجدد كل ما فيه من أنظمة، فكان لي ما أردت وأصبحت رئيسا للقسم في فترة وجيزة، ولكنني اصطدمت بعقول إدارية مؤطرة بأنظمة روتينية، كان من الصعوبة بمكان التأثير عليها أو اجتذابها لما أؤمن به من أفكار تطويرية ورؤى إدارية، ولم يكن أمامي من نافذة أتنفس من خلالها إلا مقابلة طلابي في قاعات الدراسة والانكباب في معملي على أبحاثي وتجاربي الكيميائية!
يقول: كنت منبهرا حد الإعجاب بعلماء الكيمياء في الغرب والشرق، وكنت أحلم أن أكون ندا لهم أو واحدا منهم، وأتوج يوما ما بجائزة نوبل في الكيمياء، ولما لاحظ علامات الدهشة والاستغراب ترتسم على ملامح وجهي قال مستدركا: أو على أقل تقدير أربي جيلا من الكيميائيين يخرج من بينهم كيميائي عظيم يحقق طموحي هذا، ثم أكمل يقول: ولأنني وجدت صعوبة آنذاك في تحقيق طموحي الأشبه بالخيال غير الممكن بدأت أبحث عن البدائل، فقررت أن أخرج من الجامعة، فربما تغيرت الأحوال الإدارية من بعدي، وربما جاء من هم أفضل مني علما وأكثر صبرا وتحققت معهم الآمال والطموحات.
ومن المقاربات وتوارد الخواطر والأفكار في ما بيننا أنني منذ مدة اقترحت على عميد كلية العلوم، وهو كيمحيوي معروف وإداري متمرس: أن يضع في بهو وممرات الكلية صورا لعلماء في الكيمياء والفيزياء والرياضيات نالوا جائزة نوبل أو جائزة الملك فيصل في العلوم، فلعل صورة أو كلمة في السجل التعريفي لواحد من أولئك العلماء العظماء ترسخ في ذهن طالب عبقري فيقتدي به يوما من الأيام، إلا أن جدران كليتنا إلى وقتنا الحاضر وإلى ماشاء الله جدران خرسانية موحشة، صامتة لا روح فيها ولا حياة!
من المفارقات العجيبة أن رجل الأعمال هذا رغم تركه للجامعة وابتعاده عن البحث العلمي لكنه ما زال متابعا جيدا لأخبار الباحثين ولما يشاع من مبالغات عن أنشطتهم البحثية، حيث سألني ضاحكا مستبشرا عن حقيقة نشر بعض الباحثين المحليين أربعة أبحاث في اليوم الواحد، فقلت له مازحا: ما المسؤول عنها بأعلم بها من السائل، ثم قلت: لو صدقوا فيما فعلوا لحققوا طموحك وحازوا جائزة نوبل، ولكنا -أنا وأنت- أول المحتفلين بهم! فضحك ساخرا وأكمل ارتشاف فنجان قهوته!
ومن المفارقات أيضا أنني غردت بشيء من هذه القصة على «تويتر» فعلق عليها أحد الأكاديميين المعروفين بقوله: طموحات صاحبك إدارية أو تنفيذية أو تجارية، والجامعة ميدان للبحث والعلم والتعلم، وعلى أن كلمة «ميدان» تعطي دلالات كثيرة منها على سبيل المثال: التحدي والمنافسة، وأخلاق الفروسية الراقية، وسعة المجال واتساع أفق ورقعة النقاش والحوار، إلا أن واقع بعض جامعات اليوم ليس كذلك، إطلاقا، وعلى أية حال وددت لو أن صاحبي هذا أو أي صاحب بالجنب أو بالخاطر أو بأي شيء آخر يستطيع أن يسحبني معه إلى عالم هو الأكبر ميدانا والأكثر تحديا وإغراء، فالصاحب كما يقال ساحب!
drbmaz@