الرأي

التسول بين الواقع والتقنين

عبدالله أحمد الزهراني
وها هو شهر الخير والبركة وموسم الجود والعطاء يقترب من وداعنا مؤذنا بانطواء صفحة من دفتر العمر، وواعظا للمعتبرين بأن الحياة أيام وأشهر وسنون أصلها ساعات ودقائق وبذورها ثوان قصيرات. وشهر رمضان هو سيد الشهور وموسم البذل والكرم والجود والسخاء، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة حيث كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ حيث كان أجود من الريح المرسلة. وفي عصرنا الحاضر حيث الخير وافر كثير ووجوه البر والإنفاق عديدة متشعبة والراغبون في الإنفاق كثر والدليل على ذلك هو كثرة الجمعيات الخيرية وانتشارها في جميع أرجاء الوطن ورغم ذلك يتكاثر المتسولون لدرجة يشكك الكثير من الموسرين في مصداقية كل المتسولين في زمن بات اصطناع العاهات يسيرا واستصدار صك الإعسار وسندات التزكية سهلا، ففي المساجد والأسواق وفي الطرقات وعند إشارات المرور وفي كل مكان يتعدد المتسولون وتتجدد طرقهم ومذاهبهم في مناظر توحي بأن هناك شريحة كبيرة من أبناء المجتمع فقراء معوزون على الرغم من أن اللهجات المصطنعة ومحاولة التدثر بالزي السعودي تفضح معظم المتسولين وتشي للخبير بأنهم من غير السعوديين.

وحيث إن الإسلام لا يفرق بين أعراق المتسولين بل حث على إعطائهم والآيات الدالة على ذلك كثيرة، كما حث أيضا على الرفق بالسائلين وعدم نهرهم والرفق بهم (وأما السائل فلا تنهر)، وأمام ما نراه من تشتت في الاتجاهات وتنوع للأوجه بالنسبة لعمل الخير، حيث يقف من يريد الإحسان حيرانا ولا يدري أين يدفع بزكواته وصدقاته، هل يدفع بها للجمعيات وهي متعددة ومتشعبة ومنها الداخلي والدولي، أم يا ترى يدفع بها مباشرة للمتسولين والذين تحوم الشكوك حول مصداقية معظمهم، ولعل القرآن الكريم قام بترتيب الأولويات للدفع بما يفعل البر بالوالدين ويزيد من صلة الرحم ورعاية الأيتام ويحقق التكافل والترابط الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة والحي الواحد ومن ثم البلد الواحد فالمجتمع الواحد ويالها من أهداف نبيلة سامية، قال تعالى في سورة البقرة: آية 215 «يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فان الله به عليم» وقال -صلى الله عليه وسلم- «الأقربون أولى بالمعروف» ومن هذا السياق نتمنى أن لو تركزت جهود الجمعيات الخيرية وجهود المحسنين الذاتية على الفئات المذكورة بعالية حتى يتحقق الاكتفاء الذاتي أو القضاء على فئة المتسولين من المواطنين.

والملاحظ هو انتشار الجمعيات الخيرية بشكل عشوائي، حيث تكثر في مدن وأحياء بذاتها إلى درجة الترهل، وتقل في أخرى إلى درجة الانعدام بينما تعتبر في أمس الحاجة لمثل هذه الجمعيات وخدماتها المقدمة. ومن الملاحظ أيضا عدم تصنيف هذه الجمعيات أي بالأصح تداخل نشاطاتها في بعض الأوجه إلى درجة التطابق ومن ثم الازدواجية مما يعني هدرا للوقت والمال، وبالمقابل هناك أوجه خير وبر يقل اهتمام الجمعيات بها.

وما نراه من تعدد الجمعيات الخيرية وتنوع نشاطاتها وتوزيعها الجغرافي وتشعب أوجه إنفاقها وتشتت جهودها حد التعارض أو الازدواجية، وارتباك موازناتها وعدم كفايتها لسد منافذ التسول، كل يدعونا لمناشدة الجهات المشرفة عليها بإعادة هيكلتها وتوحيد نظام أساسي يسري على جميع الجمعيات الخيرية، والنظر في تخصصاتها، حيث تخصيص كل جمعية لمشاريع معينة وأوجه محددة أجدى وأنفع من تعويم الأهداف تحت مسمى متعددة الأغراض، فالتخصص يحمل على التمكن والكفاءة وبالتالي الكمية والجودة، وكذلك ينبغي النظر في التوزيع الجغرافي للجمعيات على مستوى المناطق أو المحافظات والمدن ليتسنى الوصول لجميع الشرائح المستحقة للمساعدة من مساكين وفقراء وأيتام وعجزة وأبناء سبيل.

ولذلك أتمنى تصنيف هذه الجمعيات الخيرية المنتشرة في أرجاء الوطن ليدل التصنيف على هوية الجمعية ويعكس نشاطاتها كالتعليمية والتدريبية ورعاية الأيتام ورعاية المسنين ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة والعلاجية فأوجه البر ليست محصورة في توزيع زكاة الفطر أو بعض المؤن الغذائية والمساعدات العينية وغيرها على من هو مسجل في الجمعية، كذلك يجب دراسة التوزيع الجغرافي للجمعيات حسب توزع الشرائح المستفيدة من خدماتها، وحبذا لو أن هناك مقارا نموذجية موحدة للجمعيات تتناسب والأنشطة التي تمارسها والخدمات التي تقدمها.

وحيث نلاحظ كثرة الجمعيات الخيرية التطوعية وعشوائية توزيعها جغرافيا وسكنيا وتعدد مصادر تمويلها واختلاف هياكلها الإدارية وتباين لوائحها التنظيمية مما يضع الجميع في حيرة في أي جمعية أولى بالدعم والمساهمة وأيها أنشط وأكثر مصداقية وأي منطقة أو حي أحوج بالخدمة وبالعمل التطوعي وحيث أن الأمر كذلك، فإن إصدار نظام موحد يسري على جميع الجمعيات التطوعية ومصادر تمويلها والعمل على تنسيق أعمال ونشاطات كل جهة لكي نتلافى العشوائية والتضارب والازدواجية -إن وجدت أو كان هناك شك في وجودها-. ولا بد من تحديد الأنشطة الخاصة بكل جهة أو جمعية تقدم الخدمات التطوعية حتى يكون هناك تخصص في تقديم الخدمات؛ لنضمن الجودة والتمكن، وكذلك درء التداخل أو الازدواجية في أعمال الجمعيات ومهامها.

وفي ظني أن تنظيم عمل الجمعيات وإخضاعها للرقابة المالية والإدارية والبحث عن مصادر دخل ثابتة لكفيل بحل مشاكل معظم المحتاجين ولاسيما المتعففين الذين لا يسألون الناس إلحافا.

ويمكن هنا التساؤل: ألا يمكن أن تستخدم إيرادات مصلحة الزكاة في دعم الجمعيات بعد إحكام الرقابة عليها ومراجعة ميزانيتها، وتوحيد مرجعيتها لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والتأكد من أوجهه صرفها مساعداتها وتبليغها لمستحقيها؟.

وحيث إن المسؤولية تقع على عاتق التنمية الاجتماعية فأود أن أتساءل عن مدى استفادتها من الإحصائيات التي تصدرها وزارة التخطيط في تنفيذ خطط القضاء على التسول -إن وجدت-، وحيث يبدو لي عجزها، فإنني أود أن أقترح أن تصدر تنظيمات للمتسولين وبطاقات أو صكوك تعريفية لهم تحدد هوياتهم، وصحة نسب الأطفال، لهم ومناطق سكنهم، ودرجة عوزهم وحاجتهم؛ ليتسنى للمحسن أن يتأكد من مصداقية المتسول ومساعدته بما يستطيع، ولعل الهدف مما ذكرت هو الحد من مظاهر التسول العشوائي إن لم يكن القضاء عليها، وعلى الأساليب غير الحضارية والإنسانية التي يلجأ إليها أكثر المتسولين من اصطناع العاهات، والأسوأ من ذلك استغلال الأطفال والمتاجرة ببراءتهم دون أن يشعروا.

raheenalzain@