الرأي

تجربة العمر

مها الحريب
في طفولتي كنت أشاهد والدي - رحمه الله - وهو يغدق العطاء واللطف على المحتاجين.. كان يعطي بقلبه قبل يده.. وكان يردد هذا ما يبقى، أحببت العطاء ومساعدة الناس منه، وكبرت على البحث عن أي فرصة تطوعية تنفع الناس وتخفف عنهم وعثاء الحياة، كانت لي تجارب جميلة.. لكن سأكتب اليوم عن تجربة مختلفة وفريدة.. ليست كبقية التجارب.

في أحد الأيام وأنا أتصفح برنامج التواصل الشهير (تويتر) وجدت حسابا لمبادرة أطلقت على نفسها مسمى (مجتمع واحد) كانت غايتها الوصول لمنازل المحتاجين وترميمها وتقديمها لهم بحلة جديدة من صنع أيدي المتطوع وعطاء المتبرعين.. تواصلت معهم حتى جاءتني الموافقة على المشاركة معهم واتفقنا على اليوم والساعة..

جاء اليوم المنشود.. وكلي حماس لخوض غمار هذه التجربة، كان المنزل بعيدا جدا في حي من أحياء الرياض لم تطأه قدماي يوما.. وصلت وبجهد بحثت عن مكان يتسع لسيارتي في ذلك الحي العتيق، مررت بزقاق ضيق تحيطه بيوت عفا عليها الزمن وترك عليها بصمة لا تنسى من الوهن والقدم، يطلقون عليها بيوتا؛ لكنها كانت بيوتا هرمة متهالكة أنهكها مرور العابرين وتبدل الساكنين، بيوت لو نطقت لحكت قصصا عن معاناة قاطنيها.. رأيت من بعيد تجمعا لشباب وشابات يعملون بجهد فأدركت أني وصلت المنزل.. المقصود.. هالني ما رأيت، بيت صغير سقفه متهالك وأثاثه مهترئ، جدرانه تنضح بالفقر ودون أن أبالغ كان البيت عبارة عن ثلاث غرف ضيقة جدا تكفي بالكاد لشخص واحد في كل منها.

طوال سنوات عمري كنت أرى الفقر والحاجة هم أشرس أعداء الإنسان، أصعب ما قد يواجهه الفرد في حياته ينخر الفقر حياته كالسوس حتى يقف عاجزا عن تأمين عيش كريم له ولأبنائه أو تقديم ظروف حياتية ملائمة، هذا الحمل الثقيل يبقيه أسيرا يدور في دائرة من الألم وقلة الحاجة ينتظر فرجا من الله لعله قريب.

كان العمل يدور باحترافية وتقسيم للمهام بين الجميع ما بين التنظيف وإزالة الأثاث القديم والبدء في تجهيز البيت ليأخذ حلة جديدة، كانت الأسرة التي تقطن هذا المنزل قد غادرته بانتظار الانتهاء منه، الكل كان يعمل بسعادة، بينما هم يعملون أخذتني أفكاري بعيدا عنهم كم يحتاج الإنسان من الصبر والإيمان؛ ليتجاوز أوجاعه بين هذه الجدران الضيقة.

انتهى العمل وحانت ساعة تسليم المنزل لصاحبته مع أولادها الصغار.. تنافس المتطوعون أجمل منافسة في تقديم الهدايا للصغار وتجهيز المنزل بالمؤنة الغذائية، تجاوزا المطلوب منهم في الترميم إلى الإحسان في تقديم عطاياهم.

كنت أسمع دوما عبارة تقول كانت (عيناها تضيء فرحا وتلمع من السعادة)، حين رأيت عيني تلك المرأة المسكينة أدركت حقيقة تلك العبارة.

أطفالها حولها يبتسمون بشدة من التغيير الذي حل ببيتهم وكأنهم يبتسمون للحياة التي بدأت تريهم جانب حلوا، منها.. تجربة لا توصف تدخلها بقلب وتخرج منها بقلب آخر.. وبرؤية أخرى للحياة، لنفسك، ولكل ما حولك..

تجربة كهذه لها حلاوة أشد من العسل.. لا يمكن أن تشارك مع مجتمع واحد ولا تتعلم وتستشعر أهمية العطاء والدعم لأمثال هؤلاء المحتاجين، دعم بالمال أو بالعمل مع المبادرة العظيمة كفيل أن يغير حياة أسر كثيرة يدخل عليهم السرور ويخبرهم أن الدنيا فيها مساحه للجمال والخير.

من أروع تجارب التطوع التي عملت بها بكل تفاصيلها مرورا بالدقة في اختيار الأسر المحتاجة والشراكة مع جمعية موثوقة كجمعية (بنيان) تجعلك تشعر بالاطمئنان وأنت تتبرع أو تشارك.

وأقول لكل من يقرأ مقالي هي تجربة فريدة من نوعها.. تجربة عميقة تغير معاني الحياة في عينيك، يستحيل أن تدخلها وتخرج منها دون أن تترك بصمة في روحك، دون أن تشعر أنك ممتلئ بشعور السعادة العميق لما قدمته.

شعور الامتنان لكل ما في حياتك. دروس كبيرة ترسخ في ذهنك.. ترى بها الحياة بمنظور آخر مختلف عما اعتدت عليه.

شكرا لكل فريق (مجتمع واحد)، لأنهم أتاحوا لي هذه الفرصة، ما أعظم عملكم! وما أكبر أجركم عند الله!.

Maha_m4@