يحب (الصالحين) وليس منهم!
الخميس / 16 / شوال / 1437 هـ - 22:30 - الخميس 21 يوليو 2016 22:30
في فيلم (السفارة في العمارة) لعادل إمام، كان هناك مشهد يلخص بمهارة حالة الوجدان العربي المنغمس في الشهوات وفي ذات الوقت يهتم بقضايا الأمة الكبرى، تلك اللقطة التي تضطجع فيها بائعة الهوى إلى جوار بطل الفيلم (شريف خيري) المولع بالنساء، وحين تكتشف بائعة الهوى وجود السفارة الإسرائيلية إلى جوار مضجعهما تصرخ بأعلى أصوات اللعن والاستنكار على هذا (المضاجِع) العميل الذي رضي بأن يسكن إلى جوار سفارة العدو.
وتقريبا كل أحداث ذلك الفيلم تمظهرت في تمجيد تلك الروح السكرى بلغة الاستنكار والشجب والإدانة برغم الانغماس في الملذات كحالة من حالات إثبات أن الروح الوطنية والقومية لا تزال مشتعلة عند كل إنسان مهما كان (مدمَّرا) من الداخل. الأهم أنه (يكره إسرائيل).
لدينا في مجتمعنا السعودي حالة مشابهة جدا لهذا الانحراف في الأولويات والقضايا، ففي ظرفنا الثقافي (زمن الصحوة) والذي جاء على أنقاض الظرف القومي والعروبي الذي أنتج الثقافة التي انطلق منها كاتب فيلم السفارة في العمارة، سترى لدينا أنواع المزايدات الدينية حتى من أكثر فئات المجتمع انحطاطا، سترى مثلا شاذا جنسيا يؤيد منظومة التشدد الديني أو التطبيقات الخشنة لبعض أعضاء هيئة الأمر بالمعروف، ويدعو إلى مقاطعة قنوات (الإم بي سي). وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي تعجّ بهذه الأمثلة، فستجد مثلا حسابا لعاهرة تعلن عن رغبتها في إقامة العلاقات الجنسية بمقابل مادي، وفي ذات الوقت تغرّد بالآيات القرآنية والأحاديث، في مشهد لا يمكن وصفه بغير الانفصام الحاد في أعماق الضمير! إلا أن هذا الانفصام أصبح طبيعيا ومستساغا عند الكثيرين، كحالة من حالات إثبات اشتعال (جذوة التدين) برغم الانغماس في الملذات.
تقريبا أستطيع القول إن أيديولوجية فيلم السفارة في العمارة تكاد تنطبق على بعض حالات التدين المحلي المشغول بإعلان (الإدانة والشجب والاستنكار) والدخول في جمهرة النغمة العامة، مع بعض المزايدات الوعظية، إلا أن المحتويين يختلفان بحسب الظرف الثقافي لكل مرحلة، بين مرحلة القومية والعروبية التي أنتجت كاتبا كتب نص فيلم السفارة في العمارة، وبين مرحلة زمن الصحوة التي أنتجت تلك الأمثلة النفاقية في مجتمعنا، إلا أن التشابه الحادّ يكمن في أن السياقين يعززان إشغال الفرد بـ (خداع الضمير) المذوّب تلقائيا في الضمير الجمعي على حساب الأولويات المفترضة في بناء الذات وتنشئة السجايا الإنسانية الصحيحة، كأولويات منطقية يجب على الفرد الاهتمام بها قبل أن يهتم بقضايا أكبر منه.
هكذا سارت رحلة التزييف في وعي الإنسان العربي عموما، وجعلته في حالة تغييب دائم عن ذاته وعن كينونته، بل لقد تحولت العملية برمّتها إلى نوع من التبرير اللازم للفرد جرّاء ما يقترفه من آثام، بحيث يكون مرتاحا أغلب الوقت لما يقوم به، ما دام أنه داخل ضمن تركيبة الظاهرة الصوتية المرتفعة، ولا يهم بعد ذلك – في تصوره – كل ما يقوم به، فكما مرّرت رسالة الفيلم المذكور الإشادة بعاهرة تكره إسرائيل، ستُظهِر عاهرة أخرى في بلد آخر تدينَها الظاهر وكرهها للتغريب والاختلاط وقيادة المرأة للسيارة.
ومن هنا نشأت تلك السلوكيات التي تجنح للنفاق الاجتماعي للاحتماء بالظاهرة الصوتية كغطاء للدمار الداخلي، وكنوع من تقديم الرشوة للضمير.
هذه الحالة النفاقية الفظيعة لا يمكن اعتبارها حالات فردية بسيطة، بل يمكن القول بأنها ظاهرة عامة سببها التزييف الفظيع في الوعي نتيجة الوعظ العشوائي الذي ظلّ زمنا يتخذ صفة الحشد والتعبئة دون تقديم أي برامج موازية في تعزيز دوافع المناعة الذاتية وتحفيز الذات على المبادرة الإيجابية.
تلك الفوضوية الوعظية مسؤولة بشكل مباشر عن هذا الفشل في النهوض بالناشئة، ومسؤولة أيضا عن حالة تغييب الذات عن المبادرة الحرّة المستقلة المعتدّة بإمكاناتها الكامنة، بسبب الطريقة التربوية التي زرعت في الأذهان أن الفرد هو مجرد (استجابة) لظروف محيطة، وبالتالي فهو معرّض لتلك الظروف، دون التركيز على عملية تعزيز ذلك الفرد بقيم الحرية والمسؤولية والإبداع والإيجابية وبث روح المبادرة، ليقدم شيئا يلهيه تلقائيا عن تلك الاستجابة التي يُخشى عليه منها، فنشأت أجيال ضعيفة نفسيا، ومهزوزة وغير واثقة، وغير قادرة على الإبداع والسمو والإنتاج والبناء والمنافسة الأممية المحمومة.
waheed@makkahnp.com