الرأي

الشعبنة وحديث الروح

زيد الفضيل
جاء في مجلد المجتمع بموسوعة جدة العلمية (وهي موسوعة أشرف على تحريرها نخبة من الأساتذة الأكاديميين المتخصصين بإشراف ومتابعة الباحث والأكاديمي المتفرد منهجا وعلما وخلقا الأستاذ الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي)، أن (الشعبنة) احتفال أهلي تقيمه الأسر في مدينة جدة ومكة المكرمة والطائف والمدينة المنورة في الأسبوع الأخير من شعبان، بقصد توديع أيام الفطر واستقبال شهر الصيام والعبادة، وغالبا ما يكون الاحتفال في منزل كبير العائلة، أو يتم التوافق على الخروج في البراري وعلى الشواطئ، وترتكز الاحتفالية على إقامة وليمة يجتمع عليها أفراد العائلة جميعا، ويكون فيها كل ما لذ وطاب، مع حرصهم على أن تشمل المائدة عددا من الأطباق الشعبية كالمطبق والبليلة والهريسة، ومن الحلويات اللدو واللبنية والمشبك والدبيازة والغريِبة وغيرها.

كما اعتاد الأطفال قديما على ترديد أهازيج ينشدونها وهم يطرقون الأبواب لطلب الحلوى من بيوت الحارة، والتي عادة ما تكون ربة البيت قد استعدت لهم بتجهيز ما يطيب لهم من حلوى وهدايا، إكراما لهم واحتفاء مبكرا بالشهر الكريم، ومن تلك الأهازيج التي تواتر نقلها قولهم:

سيدي شاهن يا شُربيت، خرقة مرقة يا أهل البيت

إما جواب والا تواب، والا نكسر هذا الباب

لولا خواجة ما جينا، ولا طاحت كوافينا

حل الكيس وأعطينا

وينشدون في أخرى:

ستي سعادة هاتي العادة

سيدي سعيد هات العيد

إما مشبك ولا فشار

ولا عروسة من الروشان

ولا عريس من الدهليز

هكذا كان دأبهم، وهو حال كثير من العوائل إلى اليوم، بل وباتت (الشعبنة) سمتا يقيمه الأصدقاء والخلان في آخر أسبوع من شعبان، مع تلاشي ترديد الأهازيج من قبل الأطفال لاختلاف طبيعة المجتمع وسمته الثقافي من جهة، وتوسع المدينة وتغير منظومتها المجتمعية بشكل لافت، فالحارة كانت بمثابة البيت الكبير لكل من ينضوي تحت لوائها، لتكون بمثابة العاقلة غرما ومغرما، أما اليوم فباتت اسما يجمع هويات متنوعة، واقتصر دورها على توصيف بسيط اختزل قيمها وثقافتها في معنى واحد وهو «العنوان»، ولذلك لم يعد لها حضور في الوجدان المجتمعي المعاصر، لا سيما مع توسع المدينة المذهل، وضمور الحس الإنساني في ظل ما يعيشه المرء من توحش مادي صارم، أرخى بسدوله السلبية على كثير من سلوك وعادات وثقافة المجتمع المعاصر.

أعود إلى طقس (الشعبنة) الاجتماعي لأشير إلى استمتاعي بمعية عدد من الأصدقاء بقضاء ليلة ولا أجمل، في ضيافة شخصية يعجز قلمي عن وصف جمال روحه وبساطة سمته وعلو قيمه ومتانة مروءته، وهو الأديب أحمد باديب، الذي عرفه المشهد الثقافي على الصعيدين المؤسسي والإنساني داعما ومؤازرا وسندا، وأزعم أنه لن يختلف على ذلك اثنان.

وزاد جمال شعبانيتنا حضور موسيقي متفرد في عزفه وأدائه كنى نفسه بـ»أسير الأصالة» لكي يخفي اسمه الصريح، ولست معه في ذلك، لكنها رغبته التي أحترمها، وحقا هو أسيرها العاشق المتيم بقيدها اللحني وجملتها الموسيقية، إذ يذهلك وهو يعزف صوتا ووترا أغنية خالدة لكوكب الشرق أم كلثوم، بلحن الموسيقار محمد عبدالوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي والشيخ زكريا أحمد وبليغ حمدي وغيرهم من الرموز الراحلين، واللافت في الأمر أنه لا يكتفي بعزف وغناء مقطع أو مقطعين، بل تراه يسبح هائما منفعلا متفاعلا بالأغنية كاملة، بكل كوبليهاتها وجملها اللحنية والموسيقية، ولعمري فذلك تفرد بات نادرا في الوقت الراهن، بل أراه صار صعبا على كثير من ممتهني الغناء والمغنى الذين أفقدهم شغفهم المادي استشعار قيمة الموسيقى وما تولده من بعد وجداني، وتشكله في عمقها الروحي من أحاسيس ومشاعر سامية.

حقا كم هي جميلة تلك الليلة ونحن نحلق في سماء عالية مع قصيدة «الأطلال» لإبراهيم ناجي، ومناجاة بيرم التونسي في قصيدته «القلب يعشق كل جميل»، و»حديث الروح» للشاعر والفيلسوف الباكستاني محمد إقبال، بترجمة الأديب الشيخ الصاوي شعلان، ولحن الموسيقار رياض السنباطي التي اختتم بها أسير الأصالة ليلة شعبانيتنا بمعانيها الرقراقة التي جاء في مطلعها:

حديث الروح للأرواح يسري ،، وتدركه القلوب بلا عناء

هتفت به فطار بلا جناح ،، وشق أنينه صدر الفضـاء

ومعدنه ترابي ولـكن جرت في لفظه لغة السماء

وكل عام ورمضان يجمعنا بخير.

zash113@