اللغة العربية.. بيت بمنازل كثيرة
السبت / 21 / شعبان / 1442 هـ - 19:05 - السبت 3 أبريل 2021 19:05
قليل من التاريخ لا يضر. تحديدا لمحبي علم اللغة واللسانيات والضجرين والضجرات من الكلام في السياسة. اطلعت مؤخرا على دراسة من كلية العلوم الإنسانية في قسم التاريخ واللغويات لجامعة كامبردج الإنجليزية كانت قد نشرت منذ فترة طويلة. أثبتت فيها أن اللهجات العربية المحكية اليوم لم تنحدر من اللغة العربية الفصحى. بل إن اللغة العربية الفصحى هي لهجة شقيقة لباقي اللهجات التي تنتشر في العالم العربي اليوم. مما أثار الشهية لمعرفة رأي المؤرخين العرب في الموضوع.
يعتمد علماء اللغة واللسانيات على اللغة كأداة لفك شيفرة التاريخ. واللغة العربية التي تعتبر من أشهر اللغات السامية تصعد إلى عهد ما قبل الإسلام بعدة قرون. يقول الدكتور إبراهيم بيومي رئيس مجمع اللغة العربية السابق إن اللغة العربية «تحمل إرثا إنسانيا كبيرا لا يمكن لأي قارئ للحضارة الإنسانية القفز من فوق تأثيرها». وقد أكد على ذلك الأستاذ عباس العقاد في كتابه القيم «اللغة الشاعرة» الذي فيه بحث ونقب عن جذور هذه الشاعرية لدى لغتنا العربية. مستنتجا أن خصائص هذه اللغة تعود في جذورها إلى قرون طويلة، لأكثر من مائتي عام قبل الإسلام.
رغم أن معظم الشعر والنثر العربي قبل الإسلام قد ضاع حسب مقولة أبي عمرو بن العلاء الشهيرة «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله». إلا أن ما اتصل بنا من نقوش وحفائر وكتابات تدل على وفرة ما انتجه العرب من كلام لفظا ومعنى. لأجل هذا أجمع الباحثون العرب والمستشرقون على أن معجم اللغة العربية تشكل أغلبه قبل الإسلام. وهو ما ذهب إليه الكاتب أحمد أمين في مؤلفه «فجر الإسلام» قائلا «نستطيع أن نثبت ولا نستطيع أن ننفي».
والقارئ لتاريخ العرب قبل الإسلام سيكتشف لغات أخرى تكلم بها أهل شبه الجزيرة العربية. حيث سجل التراث في المراجع أنواعا متعددة من الظواهر الصوتية كما يصفها علماء اللغة واللسانيات، صنفت من ضمن اللغة العربية التي كانت في طور النشوء والتوسع الجغرافي حينها. لتخرج بعدها اللغة العربية من الجزيرة «كاملة النمو» متأهبة ببلاغتها حسب وصف المؤرخ الراحل حسين مؤنس في كتابه «الحضارة».
هذه الاندفاعة لم تأتي من فراغ. ساهمت في صناعة زخمها عوامل سياسية واقتصادية كبيرة أحاطت بالمنطقة العربية الحديثة النشأة. حديثة النشأة لأنه مع انتشار اللغة العربية خارج حدود الجزيرة، من النيل والى الفرات وفي بلاد الشام وحتى بطن الجزيرة العربية في اليمن تشكلت وحدة ثقافية متماسكة تعبّر بلهجة أهل قريش. لهجة أهل مكة التي اتسمت بالرقة والصفاء حتى بسطت نفوذها على اللهجات الأخرى. كما يؤكد المؤرخ حسين مؤنس واصفا أنها خرجت إلى الدنيا لغة متكاملة بنحوها وصرفها وبلاغتها وكتابتها أيضا. فغلبت على غيرها من اللهجات لأنها لغة القرآن أولا.
لكن بعضا من تلك الظواهر الصوتية بقي في الجزيرة العربية. ولا يزال في بلدنا الحبيب المملكة العربية السعودية وفي أرض اليمامة (منطقة إمارة الرياض) تحديدا تنتشر ظاهرة استبدال حرف الكاف في الكلمة بحرف السين عند مخاطبة المؤنث. على سبيل المثال عند السؤال عن أم أو أب فلانة فيقال «أُمس وأبوس». تسمى هذه الظاهرة الصوتية بـ «الكسكسة». وبحسب ما وردنا من الثعالبي في كتابه «فقه اللغة وسر العربية» كانت خصيصة لقبيلة بني بكر الوائلية وهوازن القيسية وحي من تميم اللتين سكنتا أرض نجد قبل أكثر من ألف سنة.
منذ أكثر من ألف سنة وهذه اللهجة لا تزال مسموعة في اليمامة، علما أن قبيلة تغلب الوائلية قد خرجت من الجزيرة العربية في القرن الثالث الميلادي وسكنت بلاد ما بين النهرين (العراق). وأن قبيلة بني هوازن القيسية قد ارتحل أكبر قبائلها خارج الجزيرة من سليم وزغابة ورياح فيما يدعى بالتغريبة الهلالية. ثم إن بني تميم قد وجدت في سهول بلاد ما بين النهرين مسكنا آمنا من الضغط السياسي الذي مورس من قبل الدولة العباسية حينها.
المفارقة لا تكمن في تعدد اللهجات. فقد عرف عن أهل الجزيرة العربية لهجات أخرى عديدة منها على سبيل المثال «الكشكشة» لبني ربيعة، و»العنعنة» لبني أسد وغيرها من اللهجات التي سجلها التاريخ. ما يثير الانتباه هو العلاقة بين اللهجة (الثقافة) والمنطقة (الأرض). العلاقة التي قد تشرح سبب استمرار هذه اللهجة في اليمامة مع اندثار غيرها.
وقفة تأمل لا تنتهي عند دراسة تاريخ القبائل العربية، بل تتصل بعلاقة اللغة بالتاريخ والجغرافيا. يا ليت لو تهتم دارة الملك عبدالعزيز بهذا الباب من المعرفة.
يأخذنا الموضوع إلى ماهية اللغة ذاتها. بمعنى آخر ما هي الخصائص المكونة للغة؟ وهل هي مرتبطة بالزمان أم بالمكان؟ أو بعدد المتحدثين بها؟ الأكيد أن عدد المتكلمين للغة لا يفسر طبيعتها. لأننا لو بحثنا عن عدد المتكلمين اللغة السريانية التي كانت لغة النبي عيسى عليه السلام لما تجاوز عدد أصابع اليدين. ومع ذلك تظل هذه اللغة حية في النصوص والتراث.
وجدت طرفا من الإجابة في عنوان كتاب المؤلف الكبير حفني ناصف «تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية». لأخلص إلا أن اللغة هي كائن حي. تتأثر بالأحداث وتؤثر فيها. تكتب التاريخ وتستنطقه في الوقت عينه. تملك من المواهب لا يقيدها لا بحر ولا جبل طالما هناك إنسان. فاللغة جسم عضوي ينمو ويكبر حيث هناك ثقافة مستمرة على أرض واحدة.
لا يهم عدد اللهجات أو عدد متكلميها. قد يعتقد البعض أن ولادة اللغات خاصية تعتمد على البشر. الحقيقة هي أن اللغة تخرج من رحم الأرض. فالجغرافيا هي البيت واللهجات هي المنازل. لربما استوحى الكاتب اللبناني كمال الصليبي عنوان كتابه «لبنان بيت بمنازل كثيرة» لتعدد لغة أهل السياسية فيها. لكنه يظهر أهمية البيت الجامع المانع. الحفاظ على البيت (الأرض) عمل يحافظ على المنزل (اللغة) وكل ما يسكنه. هنا يمكن الاستنتاج أن اللغة لا تندثر بتدني عدد متحدثيها بل تسقط بتدني إنتاجها الفكري. وقول الله تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».
صحيح أن تعدد لغات أهل السياسة يصيب المتابع بالضجر. لكن التاريخ وبالرغم من تعدد لغاته يبقى مصدر الإلهام الأول للتفكير في قضايا الشأن العام. تعدد لغات السياسة يأتي مدفوعا بالمصالح. أما في التاريخ يأتي مدفوعا بالثقافة. لم يخطئ العلماء حين وصفوا التاريخ بالمعلم الأكبر. هذا إذا ما قبلنا بنظريات علم التاريخ الاجتماعي الحديث. وهو علم اللغويات الذي أصبح أساسا في قراءة التاريخ وحركته.
يعتمد علماء اللغة واللسانيات على اللغة كأداة لفك شيفرة التاريخ. واللغة العربية التي تعتبر من أشهر اللغات السامية تصعد إلى عهد ما قبل الإسلام بعدة قرون. يقول الدكتور إبراهيم بيومي رئيس مجمع اللغة العربية السابق إن اللغة العربية «تحمل إرثا إنسانيا كبيرا لا يمكن لأي قارئ للحضارة الإنسانية القفز من فوق تأثيرها». وقد أكد على ذلك الأستاذ عباس العقاد في كتابه القيم «اللغة الشاعرة» الذي فيه بحث ونقب عن جذور هذه الشاعرية لدى لغتنا العربية. مستنتجا أن خصائص هذه اللغة تعود في جذورها إلى قرون طويلة، لأكثر من مائتي عام قبل الإسلام.
رغم أن معظم الشعر والنثر العربي قبل الإسلام قد ضاع حسب مقولة أبي عمرو بن العلاء الشهيرة «ما انتهى إليكم مما قالته العرب إلا أقله». إلا أن ما اتصل بنا من نقوش وحفائر وكتابات تدل على وفرة ما انتجه العرب من كلام لفظا ومعنى. لأجل هذا أجمع الباحثون العرب والمستشرقون على أن معجم اللغة العربية تشكل أغلبه قبل الإسلام. وهو ما ذهب إليه الكاتب أحمد أمين في مؤلفه «فجر الإسلام» قائلا «نستطيع أن نثبت ولا نستطيع أن ننفي».
والقارئ لتاريخ العرب قبل الإسلام سيكتشف لغات أخرى تكلم بها أهل شبه الجزيرة العربية. حيث سجل التراث في المراجع أنواعا متعددة من الظواهر الصوتية كما يصفها علماء اللغة واللسانيات، صنفت من ضمن اللغة العربية التي كانت في طور النشوء والتوسع الجغرافي حينها. لتخرج بعدها اللغة العربية من الجزيرة «كاملة النمو» متأهبة ببلاغتها حسب وصف المؤرخ الراحل حسين مؤنس في كتابه «الحضارة».
هذه الاندفاعة لم تأتي من فراغ. ساهمت في صناعة زخمها عوامل سياسية واقتصادية كبيرة أحاطت بالمنطقة العربية الحديثة النشأة. حديثة النشأة لأنه مع انتشار اللغة العربية خارج حدود الجزيرة، من النيل والى الفرات وفي بلاد الشام وحتى بطن الجزيرة العربية في اليمن تشكلت وحدة ثقافية متماسكة تعبّر بلهجة أهل قريش. لهجة أهل مكة التي اتسمت بالرقة والصفاء حتى بسطت نفوذها على اللهجات الأخرى. كما يؤكد المؤرخ حسين مؤنس واصفا أنها خرجت إلى الدنيا لغة متكاملة بنحوها وصرفها وبلاغتها وكتابتها أيضا. فغلبت على غيرها من اللهجات لأنها لغة القرآن أولا.
لكن بعضا من تلك الظواهر الصوتية بقي في الجزيرة العربية. ولا يزال في بلدنا الحبيب المملكة العربية السعودية وفي أرض اليمامة (منطقة إمارة الرياض) تحديدا تنتشر ظاهرة استبدال حرف الكاف في الكلمة بحرف السين عند مخاطبة المؤنث. على سبيل المثال عند السؤال عن أم أو أب فلانة فيقال «أُمس وأبوس». تسمى هذه الظاهرة الصوتية بـ «الكسكسة». وبحسب ما وردنا من الثعالبي في كتابه «فقه اللغة وسر العربية» كانت خصيصة لقبيلة بني بكر الوائلية وهوازن القيسية وحي من تميم اللتين سكنتا أرض نجد قبل أكثر من ألف سنة.
منذ أكثر من ألف سنة وهذه اللهجة لا تزال مسموعة في اليمامة، علما أن قبيلة تغلب الوائلية قد خرجت من الجزيرة العربية في القرن الثالث الميلادي وسكنت بلاد ما بين النهرين (العراق). وأن قبيلة بني هوازن القيسية قد ارتحل أكبر قبائلها خارج الجزيرة من سليم وزغابة ورياح فيما يدعى بالتغريبة الهلالية. ثم إن بني تميم قد وجدت في سهول بلاد ما بين النهرين مسكنا آمنا من الضغط السياسي الذي مورس من قبل الدولة العباسية حينها.
المفارقة لا تكمن في تعدد اللهجات. فقد عرف عن أهل الجزيرة العربية لهجات أخرى عديدة منها على سبيل المثال «الكشكشة» لبني ربيعة، و»العنعنة» لبني أسد وغيرها من اللهجات التي سجلها التاريخ. ما يثير الانتباه هو العلاقة بين اللهجة (الثقافة) والمنطقة (الأرض). العلاقة التي قد تشرح سبب استمرار هذه اللهجة في اليمامة مع اندثار غيرها.
وقفة تأمل لا تنتهي عند دراسة تاريخ القبائل العربية، بل تتصل بعلاقة اللغة بالتاريخ والجغرافيا. يا ليت لو تهتم دارة الملك عبدالعزيز بهذا الباب من المعرفة.
يأخذنا الموضوع إلى ماهية اللغة ذاتها. بمعنى آخر ما هي الخصائص المكونة للغة؟ وهل هي مرتبطة بالزمان أم بالمكان؟ أو بعدد المتحدثين بها؟ الأكيد أن عدد المتكلمين للغة لا يفسر طبيعتها. لأننا لو بحثنا عن عدد المتكلمين اللغة السريانية التي كانت لغة النبي عيسى عليه السلام لما تجاوز عدد أصابع اليدين. ومع ذلك تظل هذه اللغة حية في النصوص والتراث.
وجدت طرفا من الإجابة في عنوان كتاب المؤلف الكبير حفني ناصف «تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية». لأخلص إلا أن اللغة هي كائن حي. تتأثر بالأحداث وتؤثر فيها. تكتب التاريخ وتستنطقه في الوقت عينه. تملك من المواهب لا يقيدها لا بحر ولا جبل طالما هناك إنسان. فاللغة جسم عضوي ينمو ويكبر حيث هناك ثقافة مستمرة على أرض واحدة.
لا يهم عدد اللهجات أو عدد متكلميها. قد يعتقد البعض أن ولادة اللغات خاصية تعتمد على البشر. الحقيقة هي أن اللغة تخرج من رحم الأرض. فالجغرافيا هي البيت واللهجات هي المنازل. لربما استوحى الكاتب اللبناني كمال الصليبي عنوان كتابه «لبنان بيت بمنازل كثيرة» لتعدد لغة أهل السياسية فيها. لكنه يظهر أهمية البيت الجامع المانع. الحفاظ على البيت (الأرض) عمل يحافظ على المنزل (اللغة) وكل ما يسكنه. هنا يمكن الاستنتاج أن اللغة لا تندثر بتدني عدد متحدثيها بل تسقط بتدني إنتاجها الفكري. وقول الله تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون».
صحيح أن تعدد لغات أهل السياسة يصيب المتابع بالضجر. لكن التاريخ وبالرغم من تعدد لغاته يبقى مصدر الإلهام الأول للتفكير في قضايا الشأن العام. تعدد لغات السياسة يأتي مدفوعا بالمصالح. أما في التاريخ يأتي مدفوعا بالثقافة. لم يخطئ العلماء حين وصفوا التاريخ بالمعلم الأكبر. هذا إذا ما قبلنا بنظريات علم التاريخ الاجتماعي الحديث. وهو علم اللغويات الذي أصبح أساسا في قراءة التاريخ وحركته.