الرأي

يوم الحصى خبز!

أحمد الهلالي
اللغة هي الحبل المتين الذي نتصل من خلاله ببعضنا، وبالآخر، وهي الوعاء الشاسع لأنشطتنا التعبيرية، وبعيدا عن اعتبارات (الفصحى والعامية) فكل لغة تواصلية سواء أكانت بالكلام أم بغيره، فهي حقيقة بالتأمل، وإن نظرنا في لغتنا العامية؛ سنجدها امتدادا أصيلا للفصحى، فهي فصحى تخففت من قواعد نحوية وصرفية، لكن دلالاتها ظلت مضيئة؛ ويكفي أنها قادرة على أداء جميع احتياجاتنا التعبيرية، سواء في اللغة النفعية في تواصلاتنا اليومية، أم في اللغة الأدبية شعرا وقصة ومثلا وغيرها من قوالب التعبير الأدبي.

هذا الحديث ليس انتصارا للعامية، ولا مفاضلة بينها وبين الفصحى، وفي رأيي لا تصح المقارنة بين الفرع والأصل، فالفصحى هي لغتنا الرسمية والعلمية والتعبدية، لكننا كشعوب الأرض قاطبة، اخترنا لغة تواصلية بسيطة تتجلى في (العامية) وكما نعتني بالأصل دراسة وتأملا، فإن عاميتنا أيضا تستحق عناية وتأملا في بعض مستوياتها وتعبيراتها، ومن هذا المنطلق فهذه سلسلة من المقالات التي أتأمل فيها الطاقات التعبيرية للغة العامية بما يتيسر لي من أدوات.

شدتني بعض التعبيرات في العامية، التي تتخذ الكناية حقلا تستمد منه قوة طاقاتها التعبيرية، فمنها قولهم «يوم الحصى خبز» كناية عن بعد المدى الزمني الموغل في القدم للأمر الذي يرومون التعبير عنه، فحين يسأل سائل: متى كان الأمر؟ تأتي تلك الكناية جوابا، وحسبما قرأت فإن ذات الكناية تقال في نجد «يوم الحصى تمر» ارتباطا بالليونة والرطوبة كما عبر عنها العرب الأوائل، وظلت تلك الأسطورة تتحرك في ذهنية العربي وما تزال.

كذلك حين يرومون التعبير عن شدة الحرارة والرمضاء، يقولون «ترمي بها تنضج» وهم يريدون أنك لو رميت قطعة لحم نيئة على الأرض لنضجت من شدة الحرارة، وذات الكناية بتحوير بسيط يعبرون بها عن كثافة «الحيا» الحشائش والمراعي، فيقولون «ترمي بها ما تترّب» أي لو ألقيت قطعة اللحم النيئة على الأرض لما مسّها التراب من كثافة النبات.

والمدهش في هذه التعبيرات أنها تتخذ الغذاء حقلا للتعبير عن أمور بعيدة (الخبز، اللحم، التمر) ما يقود إلى تأول انشغال الذهنية بالغذاء والأماني المضمرة بوفرته، يدعم هذا التأول التفاتنا إلى معاناة إنسان الجزيرة العربية من شح الغذاء في أرضه القاحلة، ألم يقل الحطيئة وهو يصف حال أسرة في

الصحراء:

حفاة عراة ما اغتذوا خبز مَلّة / وما عرفوا للبُر مذ خلقوا طعما

والمدهش أكثر ارتباط الغذاء بالأرض (الحصى والخبز/ والتراب واللحم) وكأنهم يومئون من بعيد إلى دور الأرض في تنمية الغذاء، وأنها مصدره الرئيس سواء في البيئات الزراعية أم البيئات الرعوية، حتى طغت على تعابيرهم وأمثالهم.

ahmad_helali@