الرأي

الثقافة بين زمنين

زيد الفضيل
عرفت أشخاصا عديدين متيمين بموسيقى الطرب الأصيل، تجمعني وإياهم لحظات من الدهشة الدائمة كلما هامت أسماعنا، وانشرحت أرواحنا، وذابت أفئدتنا مع كل جملة موسيقية ساحرة بعزفها، رقيقة بألفاظها، تحكي حال كل إنسان على هذه البسيطة مهما اختلف لونه وعرقه، فالنفس واحدة بآمالها وأحلامها، بحبها وعشقها المتيم، بعذابها وجرحها، ولذلك كانت ولم تزل خالدة بمضمونها ورسالتها، وأزعم أن كل الأنفس المعاصرة على اختلاف أجيالها ستنجذب إلى ما أشير إليه من موسيقى لو أتيح لها الاستماع، وأوقفنا حالة الاستلاب الممنهج الذي يتم باسم الحداثة والتطور، ذلك العبث الذي باسمه يتم قتل كل ذائقة في وجدان مجتمعنا، ليتحول فرده مع المدى إلى كائن مفرغ من العاطفة السليمة، مشوش في أحاسيسه، تائه عن جوهرها الذي يجب، كيف لا؟ وقد تشوهت ذائقته بصخب عارم زلزل ما عززته الموسيقى الأصيلة من ملامح أنسنة في النفس البشرية. ترى، هل ستنكر النفس المعاصرة انجذابها الهادئ حين تسمع الموسيقار محمد عبد الوهاب وهو يغني قائلا: (امتى الزمان يسمح يا جميل .. واسهر معاك على شط النيل)؟ وهل سترفض أرواحها شدو أم كلثوم بقولها: (يا فؤادي لا تسل أين الهوى.. كان صرحا من خيالٍ فهوى؛ اسقني واشرب على أطلاله .. وأروِ عني طالما الدمع روى؛ كيف ذاك الحب أمسى خبرا.. وحديثا من أحاديث الجوى) إلى أن تقول: (هل رأى الحب سكارى مثلنا .. كم بنينا من خيالٍ حولنا؛ ومشينا في طريق مقمرٍ.. تثب الفرحة فيه قبلنا؛ وضحكنا ضحك طفلين معا.. وعدونا فسبقنا ظلنا)؟ ما أروع تلك الكلمات، وما أعذب ألحانها، ولعمري فإنه طرب يؤنسن نفسا موحشة، تتصارع في تكوين ملامحها رغبات مادية قاسية، ولا سيما في عصرنا الحالي المتسارع في نبضه، وليس في السرعة المتسارعة خير وبركة، لذلك فحري بكل مسؤول ثقافي مهموم ببناء مجتمعه بناء سليما، وحريص على حماية الأجيال المعاصرة من أي تشوه سمعي ونفسي، أن يعمل على تلافي ما وقع فيه الآخرون من إشكال انعكس سلبا على كينونة مجتمعهم. وأجزم بأن أكثر ما نحتاجه اليوم على الصعيد الوطني كامن في تأسيس معهد وطني للفنون في حواضر الجهات الجغرافية الخمس ابتداء، على ألا يقتصر دوره على تعليم الرسم أو التمثيل أو العزف، وغير ذلك من الفنون، وإنما يستهدف في الإطار الموسيقي مثلا إشباع النفس الدارسة بقواعد وأسس ومقامات الطرب الأصيل، وتوثيق ما نكتنزه من موروث فلكلوري موسيقي متنوع، وتحفيز الدارسين لتأليف مقطوعات موسيقية مشتقة من ذلك التراث المتفرد جمالا وصوتا. على أن يشكل كل ذلك نواة لجوقة موسيقية أوبرالية تعزف بشكل شهري في حواضر الجهات الخمس أعذب الألحان، فهل ذلك عصي علينا يا وزارة الثقافة؟ والأمر لا يقتصر على الموسيقى وحسب، بل هو ممتد لكل أجناس الفنون الأدائية والبصرية، ولعل المسرح يأتي على رأسها جمالا وتفاعلا مع الجمهور، وأزعم أن لدينا تجربة مسرحية كفيلة بأن تنتج مسرحا وطنيا رائدا وجذابا وممتلئا بقيم فنية أصيلة، وله رسالته السامية أيضا، وهو ما رأيته ولمسته في مسرحيات الفنان المتألق خالد الحربي، الذي ساهم معي حال رئاستي لمركز باديب الثقافي في الإشراف الأكاديمي الكلي على أول دورة متخصصة في علوم المسرح أطلق عليها اسم «دورة أحمد السباعي لعلوم المسرح» امتدت أربعة أشهر، وقام بالتدريب فيها أساتذة متخصصون من المعهد العالي للمسرح في الكويت ومن البحرين والأردن، كما لا أنسى مشاركته بمسرح فكاهي جاد عبر منصة معرض الكتاب الدولي في الرياض عام 2014م بمسرحية «هاملت اخرج من رأسي»، ثم في معرض الكتاب بجدة عام 2015م بمسرحية «هل أراك» بمشاركة الفنان سلطان الغامدي، إلى غير ذلك من المسرحيات التي أعجز عن وصف جمالها نصا وإخراجا وأداء، ومتانة، سواء ما يقدمه عبر منصة النشاط الطلابي بجامعة الملك عبد العزيز، أو ما قدمه من قبل على مسرح الكورال، الذي استضاف أيضا فرقة مسرح «كيف» للكاتب المسرحي ياسر مدخلي. والسؤال: متى سنعيش حالة ما حَرَمنا منه أولئك المتشددون بتنطعهم المقيت؟ ثم ألم يئن الأوان لأن يتبلور عمل المسرح الوطني في مسرحيات دورية جادة، بنكهة محلية مناسبة، يتم عرضها بشكل شهري في حواضر الجهات الجغرافية الخمس على أقل تقدير؟ أخيرا لا يسعني أن أختم دون أن أتوجه بالشكر للوجيه أحمد باديب الذي كان ولا يزال داعما للحراك الثقافي، عاشقا متيما للطرب الأصيل، تُسكره الكلمة الأنيقة، وتُطرب أنفاسه الجملة الموسيقية، فتراه مستغرقا في أفانينها، فرحا مستبشرا بوقار أولئك العارفين الذين أخشى أن نفتقد استمرارهم في مجتمعنا المعاصر. zash113@