الرأي

سجدة الشعر!

أحمد الهلالي
للشعر سحره، وله هزة في أعماق الشعور، فهو الفن القولي المائز المتجذر في وجدان الإنسانية، لا يعدله قول إنساني في قوة تأثيره وسحره، وهذا السحر هو الذي ينتزع من أعماقنا الانفعالات وردود الأفعال المتباينة، فمنا من يصفق بحرارة، ومنا من ينزع ساعته أو بشته أو بعض الأعطيات اللحظية كما كان يفعل الأمير سلطان يرحمه الله، ومنا من يصوّت بكلمات تعبر عن إعجابه وتأثره.

وعبر تاريخ الشعر العربي، ذكر الرواة عددا من المواقف والانفعالات التي عبر بها أصحابها عن شدة تأثرهم وإعجابهم بما سمعوا، ولعل أول ما يخطر على البال قصة الشاعر كعب بن زهير بعد أن أهدر دمه النبي صلى الله عليه وسلم لما هجا المسلمين، ثم حين جاءه معتذرا وألقى بين يديه قصيدته الشهيرة (بانت سعاد) لم يجد عليه الصلاة والسلام تعبيرا أبلغ من كسوته بالبردة الشريفة، في موقف يعبر عن تقدير النبي للشعر، وعن أثر الشعر في النفس البشرية.

ومن ذلك أيضا ما روي عن أبي تمام، فقد وفد على العالم الفقيه والحافظ النبيه الحسن بن رجاء، فأنشده، وحين بلغ قوله:

لا تنكري عَطَل الكريم من الغنى

فالسيل حربٌ للمكان العالي

قام الحسن وقال: والله ما أتممتها إلا وأنا قائم، تعبيرا عن شدة إعجابه، وحين انتهى أبوتمام، قال الحسن: ما أحسن ما جلوت هذه العروس، فقال أبوتمام: لو أنها من الحور العين لكان قيامك أوفى مهر لها.

وحين أُنشدت معلقة لبيد بن ربيعة (عفت الرسوم محلها فمقامها) بحضرة الشاعر الفرزدق ووصل الراوية قول الشاعر:

وجلا السيول عن الطلول كأنها

زبر تُجِدُّ متونَها أقلامُها

لم يتمالك الفرزدق نفسه، فقام وسجد، فقيل له: يا أبا فراس! ما هذه السجدة؟ فقال: إنكم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر، وهذا موضع سجدة!

وكأن هذه السجدة الفرزدقية كانت معروفة عند عرب ما قبل الإسلام، فقد ذكرها الخليفة عبدالملك بن مروان حين ألقى الشاعر ذو الرمة قصيدته:

ما بالُ عَينِكَ مِنها الماءُ يَنسَكِبُ

كَأَنَّهُ مِن كُلى مَفرِيَّة سَرِبُ

فقال الخليفة: لو أنها قيلت في الجاهلية (لسجدت لها العرب)، فقد أعجب بها رغم نفوره من مطلعها الذي اتفق مع انسكاب دمع من عينه، وكأن الشاعر كان يعرّض به.

ولعل بعض زملائي في البكالوريوس يتذكرون انفعالي اللاشعوري هاتفا في القاعة (الله الله) حين ألقى الدكتور محمد الشهابي بيتين من قصيدة امرئ القيس، فغضب وقرعني بداية؛ لأن موضع الاستشهاد كان +18، ثم بعد برهة أصبح انفعالي مضرب مثل في كل محاضرة يتحدث فيها عن تأثير الشعر.

وليس ببعيد عن الذاكرة المقطع الشهير (عيد.. يخرب بيتك عيد)، فعلى سوء العبارة إلا أن الشاعر كان سعيدا بما أحدثته كلماته من أثر في ذلك الرجل، وكل الشعراء يسعدون بذلك حتما، فالتفاعل مع أشعارهم على تباين مستوياته هو وقود استمرارهم وتوهجهم، إلا أن بعض الانفعال قد يجني على الشعراء، وهذا ما سأستعرض بعضه في مقالة أخرى.

ahmad_helali@