الرأي

أرض مكة وفضلها على الإنسانية

معراج الندوي
كانت مكة محصورة بين جبالها ورمالها وتعيش في عزلة عن العالم كأنها ليست من أسرة الإنسانية الشقيقة، ولا رقعة من هذه الأرض الفسيحة. لقد كانت مكة قرية صغيرة، ثم كبرت هذه القرية حتى أكلت مدن الباطل، ولدت مدن الخير والحق، حتى صارت أم الأرض كلها.

هذا البلد الذي تحيط به جبال جرداء سوداء، لا يكسوها عشب ولا خضرة ولا تجوس خلالها الأنهار، متجردة عن كل ما يسترعي الاهتمام، وعن كل ما يشرح الصدر ويسر النفس من فتنة المناظر، وجمال الطبيعة، ورقة الهواء، وعذوبة الماء، فما أفقر هذا البلد في المظاهر، وما أكبر فضله على الإنسانية والعالم المتحضر.

لولا هذا البلد الذي لا يتطاول بالمظاهر الجميلة والمناظر البهيجة، لكان العالم قفصا ذهبيا، يبقى فيه الإنسان طائرا سجينا، فهذا هو البلد الذي أخرج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعتها، وأعاد الإنسانية حريتها الفردية وكرامتها الإنسانية، فهذا هو البلد الذي مثل أروع رواية وأعظمها تأثيرا على الإنسانية.

لقد أصبحت الحياة تعاطيا في البيع والشراء وتسابقا في المكيدة والخداع، أصبحت البشرية جثة هامدة، ليس فيها حرارة روح، ولوعة قلب وسمو نفس، وإذا بهذه الجثة البشرية الهامدة يدب فيها دبيب الحياة، وإذا بهذا الجسد الميت يهتز اهتزازا تزلزل به أوكار الطيور التي قد عششت عليها وباضت وفرخت وهي تحسب أنها ميتة، لا حراك فيها، طلع في هذا البلد فجر السعادة والعدل في العالم، إذا بعثت في هذا البلد رسالة من السماء، وهذه الرسالة ضربة قوية على أفكار الحياة يأسرها ويتأثر بها هيكل الحضارة والسياسة بجميع أركانه.

من هنا تفجر ينبوع الإسلام، ومن هنا خرجت جنات الشام والأندلس، وعلى هذه الجبال السود نزلت رسالة للإنسانية، من هنا خرجت الحضارة الخيرة التي لا تزال الإنسانية تنعم بخيراتها، فما رأينا مكانا، أبلغ في القلوب أثرا، وكان أكثر على البشرية فضلا، وأخلد في التاريخ عظما، وأكبر على الحضارة يدا من مكة.

وفي هذا المكان المتواضع المنقطع عن العالم المتمدن، بين الرجال والجبال، ولدت قوة جديدة لمكافحة الشر، وصد تيار الفساد لتكوين المجتمع الجديد وخدمة الإنسانية، وهذه القوة الباهرة تجددت الأمل في الإنسانية ومستقبلها، وأعادت كرامة الإنسان إلى الإنسان. وفي هذا البلد الذي وجدت فيه الإنسانية الأمل والإيمان الذي فقدته وأفلست فيه من مدة طويلة.

لولا مكة لتجردت الإنسانية من أجمل ما عندها من معان وحقائق، وعقائد وأخلاق، وعلوم وفضائل، هذا هو البلد الذي وجد فيه مصباح العلم الذي أنار العالم كله وضيعه في غياهب الجهل والظنون، وفي هذا البلد وجدت الكرامة الإنسانية التي أهدرها الطغاة والظالمون، وفي هذا البلد وجدت الإنسانية من جديد ووضع التاريخ من جديد.

لولا ابن مكة الذي تغير به مجرى التاريخ وانقلب به تيار الحياة واستأنف العالم سيرا جديدا إلى نحو جديد. هذا هو البلد الذي أهدى للعالم شيئا من الإيمان واليقين، فتبدل الأرض غير الأرض، وتغير العالم غير العالم.