قارئة الفنجان
مقابسات
السبت / 11 / شوال / 1437 هـ - 00:15 - السبت 16 يوليو 2016 00:15
كنت قد عدت إلى البيت من المدرسة، الوقت ظهيرة يتثاءب فيها الشارع المؤدي إلى بيتنا، فالناس فرت من وهج شمس تظلل البشر والحجر بشواظ من نار، وقرب الجدار الذي يستر داخل البيت، وكنا ندعوه «الردة»، تتقلب هرة على التراب، فلعلها تبعث البرودة في جسدها. نضوت عني ثوبي، وألقيت بالجزمة المدرسية في جانب، والجورب في جانب آخر، واتجهت مسرعا إلى الصنبور وجعلت أمرر الماء على رأسي، رجاء أن أبترد، واتخذت زاوية من البيت أريح فيها جسدي، حتى تهيئ أمي طعام الغداء.
وبين الغفوة واليقظة كان صوت تلفازنا الملون يبلغ مسامعي، فأنتبه، ثم ألوذ بلحظة استرخاء، حتى انبعث من التلفاز صوت عبدالحليم حافظ، وكان له مقامه في بيتنا، فأعرضت عما أنا فيه، واستويت في جلستي، واستحضرت ذهني، وتحلق إخوتي حول التلفاز.
كانت أغنية «قارئة الفنجان» تغمر تلك الظهيرة، وكان صوت عبدالحليم يلف جنبات بيتنا الصغير، وكانت أعيننا الصغيرة تديم النظر في المسرح، تتأمل أعضاء الفرقة الماسية، تخلبنا أوتار القيثار الكهربائي، وتعجبنا أصوات الأورغ، ويدهشنا ذلك البهاء الرصين للعازفين.
أدركنا في ذلك اليوم الذي لا يشبهه يوم من الأيام أن هذه الأغنية فيها ما يجعلها مختلفة، كلماتها الفصحى لم تغلق ما بيننا وبينها من علائق، كنا نحس روعة اللحن، وكنا مفتونين بالعندليب الأسمر، والذي لا أشك فيه أننا أحببنا كلماتها حبا غريبا، وغلبت علينا سذاجتنا، ولأول مرة عرانا الدهش لتلك التعابير التي تبلغنا في غير ما صعوبة ولا مشقة، وأذكر تلك الملاءمة بين اللحن والصوت والكلمات، كل أولئك انتهى إلينا في رفق ويسر:
جلست
والخوف بعينيها
تتأمل فنجاني المقلوب
قالت: يا ولدي لا تحزن
فالحب عليك هو المكتوب
وتمضي الأغنية على هذا النحو، وأزداد تعلقا بها، وسرعان ما أتمثل في عقلي هيئة امرأة، واخترت لها أن تكون عجوزا، ولا أدري أي سحر بعثته في نفسي كلمة «فنجاني»، إن كلمات الشعر هي كلماتنا، وربما لم أحدس بذلك على هذا النحو من التدقيق والتفلسف، لكنني، حتما، أحسست قرب ما بيننا وبين تلك الأغنية الغربية العجيبة.
أذكر أننا ضحكنا كثيرا حين سمعنا عبدالحليم يغني:
بحياتك يا ولدي امرأة
عيناها سبحان المعبود
فمها مرسوم كالعنقود
ضحكتها أنغام ورعود
والشعر الغجري المنبوش
يسافر في كل الدنيا
قد تلقى امرأة يا ولدي
يهواها القلب
هي الدنيا
كنا نضحك دهشين لا ساخرين، وكان مبعث ضحكنا أن الأغنية كأنها فتحت صندوق لغتنا وتخيرت كلماتها
مما نسمع وما نتكلم، ويا الله إنني حتى اليوم لا
تعبر بي هذه الأغنية إلا تذكرت تلك اللحظة التي
نسيها الزمن ولم أنسها. كان وقع الكلمات مدهشا،
مضحكا محزنا، يهتز عبدالحليم وينفطر قلبه، حين
يغني ذلك المقطع، ولم نكن نحن الفتيان والفتيات بعيدين عن روحه، من المؤكد أننا لم نحط بمقاصد الكلمات كلها، ومن اليقين أننا لم نكن عارفين شيئا عن هذا الضرب من الشعر، لكن المحقق أننا، وإن ضحكنا وعجبنا ودهشنا، أحسسنا ألم عبدالحليم وحزنه، نبكي لبكائه، ونضحك لضحكه، وما بين الحزن والفرح كانت تلك الكلمات القريبة الغربية تبلغ نفوسنا، ولها فعل قوي معجب، لا يزال يفعل فعله في نفسي على بعد الزمن، ولا أزال، على ما عرفت من أمر الشعر ما عرفت، وعلى ما شدوت شيئا من النظر في هذا الذي ندعوه شعرا، لا أزال إن سمعت هذه الأغنية، أو قرأتها، ألقي إليها سمع تلميذ الابتدائية وبصره، حين صرفته هذه الأغنية، في ظهيرة يوم من أيام سنة 1399هـ عن سكونه وعبثه، ولعل هذه الأغنية، وهو أمر لا يكاد يحققه، قد ألقت في روعه معنى، وإن يكن غامضا لا يستبينه ولا يتحققه، عن الأدب وعن الشعر، لكن الذي استبان لي بعد كرور الأيام والشهور والأعوام، أننا لا نحتاج في تلقي الشعر والفن إلا إلى روح تعلو على التفلسف والنظرية، فهذا حسب الفن وهذا قدره!
bafaqih.h@makkahnp.com