الرأي

الخبرة التقليدية عند الإدارات الأكاديمية!

بندر الزهراني
يحكى أن عجوزا أعرابية ضعيفة كانت تبيع وتشتري في أطراف سوق المدينة، فمر بها رجل وسألها عن ثمن شاة تبيعها، فقالت له بكذا وكذا من المال، فقال لها الرجل: أحسني يا امرأة، أي إنه تكاثر القيمة التي طلبتها وأراد أن يماكسها في الثمن، فانصرفت الأعرابية عنه تاركة له الشاة، فلحق بها يسألها لِمَ ذهبت؟ فقالت: ألم تقل أحسني! الإحسان ترك الشيء كله!

بعض مسؤولي الإدارات الأكاديمية من ذوي الخبرة بالسنين ممن هم اليوم ما يزالون على رأس العمل لو قيل لأحدهم «أحسنت» ازداد عجبا وغرورا، وزاد تعلقه بالمنصب وتضاعفت رغبته في الاستمرار والبقاء مئات السنين، والسبب في هذه العلاقة التي تبدو طبيعية بين المدح والثناء من جهة والتعلق بالمنصب وحب الكرسي من جهة أخرى سبب «سيكولوجي» تعززه النفس الطماعة في كل شيء والأمارة بحب الظهور والأضواء، ما بالكم لو قلنا له: أحسن! ترى سيسمع منا؟!

مفهوم الخبرة الإدارية في منظور الإدارات الجامعية المحلية يتمحور حول كثرة تنقل المسؤول بين المناصب الإدارية أو في المدة الزمنية التي قضاها في هذه الوظيفة أو في تلك، أي إن الخبرة لا تأتي إلا بالممارسة المكانية والزمانية، وهذا في الواقع مفهوم ليس كله بالضرورة صحيحا، فالخبرة لدى الموظف الموهوب قد تأتي من قراءة كتاب أو من مشاهدة مقطع «يوتيوب» أو من حضور ورشة عمل أو ندوة أو نحو ذلك، وعندئذ لا يحتاج هذا الموظف لعشرات السنين حتى يصبح مؤهلا لتولي القيادة الأكاديمية، ونحن هنا نتحدث عن الخبرة في المجالات الإدارية لا المهارات الفنية والحرفية التي تأتي بالفطرة وتصقل بالممارسة ومع مرور الأيام.

الخبرة الإدارية في الحالة الأكاديمية المحلية قد لا تكون عاملا إيجابيا في كل الأحوال، بل ربما جاء أثرها عكسيا، فتكون على سبيل المثال عائقا كبيرا أمام الابتكار والإبداع، وأمام التحرر من البيروقراطية التي في الغالب يصنعها ذوو الخبرة من المعمرين المسيطرين على مفاصل الإدارة الأكاديمية، وعلى أن العلاقة بين الإبداع والخبرة علاقة طردية، إلا أنها في الإدارات الرجعية المتخلفة تبدو دائما عكس ذلك!

الإبداع ليس في إعادة اكتشاف العجلة، وإنما في ما يضاف من قيم حقيقية باستخدام أو تطوير الاكتشافات الموجودة بطريقة أو بأخرى، فمثلا علماء الكيمياء منذ ما يزيد على مئة عام لم يكتشفوا عنصرا جديدا يضاف للجدول الدوري، ولكنهم باستخدام العناصر الموجودة وبمعرفة خواصها والعلاقات فيما بينها استطاعوا تطوير كثير من الطرق والأدوات التي دفعت عجلة النمو قدما وساهمت في تسريع حركة النهضة العلمية والثورة المعلوماتية، ابتداء من صناعة الرقائق الالكترونية الدقيقة إلى بناء المفاعلات النووية الكبيرة.

إذا كان الأكاديمي الكلاسيكي لا يزال باقيا في منصبه الإداري، فإنه عادة ما يميل إلى تصريف الأعمال أكثر من التجديد والابتكار، فهو يخشى الجديد ويقاومه ولو لم يظهر مشاعره هذه، بينما لو كان مستشارا - أي إنه غير مسؤول عن اتخاذ القرار - فإنه كي يحافظ على مكانته عند الإدارة الجديدة المرتبطة بالواقع والمتطلعة لكل جديد سيبذل المستحيل حتى يمازج بين ما يحمله من خبرات السنين وبين ما يلمسه من معطيات الواقع، وهذا ما يجعله حكيما وخبيرا حقيقيا وبالتالي يستحق وظيفة مستشار، ما يحدث في جامعاتنا المحلية هو العكس تماما، فالمستشار شاب في الثلاثينات من عمره بينما المدير تجاوز السبعين!

ما دام أننا نوظف المفاهيم بالمقلوب ونطبقها هكذا كيفما اتفق، فعلينا ألا نتساءل عن سر تأخر جامعاتنا إداريا وتعليميا، وطالما «ربعنا» من الأكاديميين لا يعرفون للإحسان معنى سوى البقاء في المنصب الإداري والإصرار عليه حتى الفناء مهما كلفهم ذلك، فعلينا ألا ننتظر منهم إبداعا حقيقيا ولا منافسة مشرفة، وليت أنهم إذا أحسنوا تركوا كما العجوز إذ أحسنت تركت الشاة!

@drbmaz