بيت
السبت / 20 / ربيع الثاني / 1442 هـ - 19:20 - السبت 5 ديسمبر 2020 19:20
كان المتنبي ولم يزل أيقونة خالدة في عالم الشعر والشعراء، فهو الحكيم الذي بذَّ أقرانه في بناء قوالب الرأي السديد والعقل الراجح، وهو الرهيف القاطع بإحساسه قول كل محب متيم، وهو المعتز بذاته أيما اعتزاز فينام ملء جفونه عن شواردها، ويسهر الخلق جراها ويختصمون، وكيف لا يكون! وقد حفز أدبه ذلك الأعمى لينظر إليه بتأمل، وأسمعت كلماته من به صمم. إنه التفرد الذي لم يكن مقبولا من أحد ولن يكون من غيره، وهو ما جعله أيقونة ممتدة في عالم الإبداع حتى اليوم.
ومثله في وقتنا الحديث كوكب الشرق وسيدة الطرب الأصيل أم كلثوم، التي صاغت بقدرتها، وذكائها الفطري، وما حباها الله من ملكة صوتية، وبجوقتها المتفردة نصا ولحنا، أفضل المقطوعات الموسيقية التي أظن أنها ستبقى خالدة في عمق الزمن، محفوظة في تلك الفضاءات السماوية كجواهر المتنبي المحفوظة في فضاءاتنا الدنيوية جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، ولعمري فذلك هو التفرد الذي يصنع من أحدنا أيقونة ممتدة في عالم الإبداع الإنساني.
ولا يتوقف التفرد عند تلك النماذج الكونية، بل يمكن أن يتكرر ولو بشكل مختلف من حيث المساحة والانتماء، ولعله سيكون سمة عصرنا المستقبلي جراء تزايد وتيرة الحياة بشكل مذهل، وهو أمر له إيجابه وسلبيته، وأظن أن من سلبياته أن أحدنا لم يعد بمقدوره أن يستوعب، ناهيك عن إدراك وفهم ما بات ينشر ليل نهار من غثٍّ أهلك في ثناياه السمين.
تبلور كل ذلك في خاطري وأنا أقرأ كتاب الدكتور غازي القصيبي الموسوم باسم «بيت»، والحق أقول: إني لم أكن قد اطلعت على الكتاب من قبل لولا أن منحتني الفرصة لذلك الدكتورة خديجة الصبان مشرفة ملتقى «لأجلك» الذي يُعنى باللغة وجواهرها، فطلبت من شخصي الضعيف أن أقدم ندوتها الأولى المخصصة في قراءة كتاب القصيبي «بيت» بما يَعِنُّ في خاطري من أفكار ورأي. ومن هنا كان وصل ما انقطع في حبلي المعرفي مع الظاهرة الثقافية التي باتت قريبة من المتنبي في خلق مساحات تفردها.
بداية وقفت كثيرا عند عنوانه البسيط جدا، لكنه عميق في مدلوله ومضمونه؛ تأملت حس الإبداع عنده متذكرا حال المتنبي وهو يصوغ كلماته بكل سهولة ويُسر، فالإبداع ليس جُملة واسعة رنانة، وإنما إحساس بليغ؛ وكم هو صادقٌ ومعبرٌ وصف العرب للبلاغة بأنها الإيجاز، فتمثلت بلاغة القصيبي في فصاحة إيجازه، حتى لو لم يقصد ذلك.
في كتابه الصغير «بيت» اختار غازي القصيبي بيتا من قصيدة معروفة لشعراء عرب قدماء ومحدثين ومعاصرين، مع اهتمامه بتطريز منظومة لآلئه ببعض أبيات لشعراء من غيرهم، وكأنه أراد أن يقول لنا ابتداء بأن كل بيت منها يمكن أن يكون بيتك الذي يحتويك روحا، ويلامس شغاف قلبك نصا، وأن ذلك هو سحر الشعر الذي يتفرد به بين كل أنواع الفنون والآداب، فبيت واحد يمكن أن يعبر بدلالته ومضمونه عن مقطوعة نثرية كبيرة كهذه المقالة التي نحن بصددها، ولعمري فذلك هو إعجاز الشعر العربي بخاصة، الذي جاء القرآن كنص نثري ليعجزه ويفوقه قوة ودلالة ومضمونا.
أشير إلى أن القصيبي قد عمد في «بيت» إلى أن ينثر قراءته الخاصة لكل بيت اختاره، مطرزا ما نثره بمعلومات لطيفة عن الشاعر والحال الذي اكتنفه، وبقصد أو بغيره لامس المحذور بدهاء متفرد، وأنزل رفاقه من أصحاب المعالي إلى الأرض، وكان بعضنا يتخيلهم محلقين دوما في السماء، لندرك أنهم يهتمون في خلواتهم بما نهتم به، فيفرحون كما نفرح، ويُبهرون بما نُبهر به، وأنهم مثل من سبقهم حين قالوا: كنا إذا خلونا صَبَوْنَا.
على أن أهم قيمة أراد القصيبي أن يعكسها في كتابه الصغير حجما العميق مضمونا كامن في تلك الرسالة التي وجهها إلى المغرمين بالطباعة من الجيل الجديد، فهل سيدرك الكُتاب الجدد مضمونها؟ ويستوعبون أن القيمة تكمن في متانة وتجويد ما نكتبه، وأن البلاغة الإيجاز؟ رحم الله القصيبي الظاهرة والإنسان.
zash113@
ومثله في وقتنا الحديث كوكب الشرق وسيدة الطرب الأصيل أم كلثوم، التي صاغت بقدرتها، وذكائها الفطري، وما حباها الله من ملكة صوتية، وبجوقتها المتفردة نصا ولحنا، أفضل المقطوعات الموسيقية التي أظن أنها ستبقى خالدة في عمق الزمن، محفوظة في تلك الفضاءات السماوية كجواهر المتنبي المحفوظة في فضاءاتنا الدنيوية جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن، ولعمري فذلك هو التفرد الذي يصنع من أحدنا أيقونة ممتدة في عالم الإبداع الإنساني.
ولا يتوقف التفرد عند تلك النماذج الكونية، بل يمكن أن يتكرر ولو بشكل مختلف من حيث المساحة والانتماء، ولعله سيكون سمة عصرنا المستقبلي جراء تزايد وتيرة الحياة بشكل مذهل، وهو أمر له إيجابه وسلبيته، وأظن أن من سلبياته أن أحدنا لم يعد بمقدوره أن يستوعب، ناهيك عن إدراك وفهم ما بات ينشر ليل نهار من غثٍّ أهلك في ثناياه السمين.
تبلور كل ذلك في خاطري وأنا أقرأ كتاب الدكتور غازي القصيبي الموسوم باسم «بيت»، والحق أقول: إني لم أكن قد اطلعت على الكتاب من قبل لولا أن منحتني الفرصة لذلك الدكتورة خديجة الصبان مشرفة ملتقى «لأجلك» الذي يُعنى باللغة وجواهرها، فطلبت من شخصي الضعيف أن أقدم ندوتها الأولى المخصصة في قراءة كتاب القصيبي «بيت» بما يَعِنُّ في خاطري من أفكار ورأي. ومن هنا كان وصل ما انقطع في حبلي المعرفي مع الظاهرة الثقافية التي باتت قريبة من المتنبي في خلق مساحات تفردها.
بداية وقفت كثيرا عند عنوانه البسيط جدا، لكنه عميق في مدلوله ومضمونه؛ تأملت حس الإبداع عنده متذكرا حال المتنبي وهو يصوغ كلماته بكل سهولة ويُسر، فالإبداع ليس جُملة واسعة رنانة، وإنما إحساس بليغ؛ وكم هو صادقٌ ومعبرٌ وصف العرب للبلاغة بأنها الإيجاز، فتمثلت بلاغة القصيبي في فصاحة إيجازه، حتى لو لم يقصد ذلك.
في كتابه الصغير «بيت» اختار غازي القصيبي بيتا من قصيدة معروفة لشعراء عرب قدماء ومحدثين ومعاصرين، مع اهتمامه بتطريز منظومة لآلئه ببعض أبيات لشعراء من غيرهم، وكأنه أراد أن يقول لنا ابتداء بأن كل بيت منها يمكن أن يكون بيتك الذي يحتويك روحا، ويلامس شغاف قلبك نصا، وأن ذلك هو سحر الشعر الذي يتفرد به بين كل أنواع الفنون والآداب، فبيت واحد يمكن أن يعبر بدلالته ومضمونه عن مقطوعة نثرية كبيرة كهذه المقالة التي نحن بصددها، ولعمري فذلك هو إعجاز الشعر العربي بخاصة، الذي جاء القرآن كنص نثري ليعجزه ويفوقه قوة ودلالة ومضمونا.
أشير إلى أن القصيبي قد عمد في «بيت» إلى أن ينثر قراءته الخاصة لكل بيت اختاره، مطرزا ما نثره بمعلومات لطيفة عن الشاعر والحال الذي اكتنفه، وبقصد أو بغيره لامس المحذور بدهاء متفرد، وأنزل رفاقه من أصحاب المعالي إلى الأرض، وكان بعضنا يتخيلهم محلقين دوما في السماء، لندرك أنهم يهتمون في خلواتهم بما نهتم به، فيفرحون كما نفرح، ويُبهرون بما نُبهر به، وأنهم مثل من سبقهم حين قالوا: كنا إذا خلونا صَبَوْنَا.
على أن أهم قيمة أراد القصيبي أن يعكسها في كتابه الصغير حجما العميق مضمونا كامن في تلك الرسالة التي وجهها إلى المغرمين بالطباعة من الجيل الجديد، فهل سيدرك الكُتاب الجدد مضمونها؟ ويستوعبون أن القيمة تكمن في متانة وتجويد ما نكتبه، وأن البلاغة الإيجاز؟ رحم الله القصيبي الظاهرة والإنسان.
zash113@