الرأي

أفضل فكرة في العالم

هادي فقيهي
في عام 2004 أطلق دونالد برويك حملة لإنقاذ حياة مائة ألف مريض في المستشفيات الأمريكية في ظرف سنة ونصف فقط. إعلان الحملة لم يتضمن حلا لأمراض القلب التي تعد السبب الأول للوفاة هناك، ولا علاجا للسرطان الذي يأتي في المركز الثاني. في الحقيقة لم تقدم الحملة أي اكتشاف طبي جديد. فبرويك لم يكن مشغولا بالمرضى الذين يموتون نتيجة عللهم وإنما خصص جهده لإنقاذ المرضى الذين يلقون حتفهم نتيجة الأخطاء الطبية والإهمال في تقديم الرعاية الصحية. ويبلغ عددهم سنويا ما بين 100 ألف إلى 200 ألف في الولايات المتحدة وحدها. فلسفة الحملة قامت على أن الأطباء بحاجة إلى التعامل مع غرفة العمليات كما يتعامل الطيارون مع الطائرات عبر اتباع جملة من الإجراءات المعدة مسبقا (checklist) للتأكد من سلامة تشغيل المركبة. وفي هذا الصدد طالب برويك الأطباء باتباع ستة إجراءات بسيطة وجد أن تجاهلها مسؤول عن معظم المضاعفات التي تحصل للمرضى أثناء وبعد العملية مثل العدوى نتيجة عدم نظافة المكان أو ترك المريض في وضعية خاطئة أثناء الإجراء الطبي. الدراسات التقييمية التي أجريت لتحديد مدى نجاح الحملة تعزي إلى برويك وخطواته الست الفضل في إنقاذ حياة 123 ألف مريض خلال 18 شهرا وهو الإنجاز الذي دفع به إلى توسيع نطاق تحديه للأخطاء الطبية ليستهدف إنقاذ 5 ملايين مريض إضافي من الإهمال الطبي عبر تطبيق مجموعة من الإجراءات الطبية التي يجب على الطبيب وممرضيه التأكد من المرور عليها أثناء تعاملهم مع المريض. فكرة قائمة الإجراءات كسبت انتباه منظمة الصحة العالمية لتصدر بدورها قائمة بـ19 إجراء يجب على الفريق الطبي فحصها مثل: التأكد من وجود جميع الأدوات التي تتطلبها العملية، وتعقيم هذه الأدوات، والتأكد من وجود كمية كافية من الدم لتعويض الخسارة في حالات النزيف. وخلال عام واحد، وجدت دراسة أن المستشفيات التي تبنت هذه القائمة انخفضت فيها حالات الوفاة لمرضى العمليات بنسبة 40% كما انخفضت حالات المضاعفات بسبب العملية بنسبة 30%. أليست هذه أفضل فكرة بعد اختراع البنسلين؟ هذه القائمة قدمت حلا لحفظ أرواح الآلاف دون أن تقدم في واقع الأمر أي معلومة طبية جديدة لا يعلمها ممارس صحي أو حتى مريض اعتاد زيارة المستشفيات. تبدو فكرة بديهية لحد السخافة ومع ذلك احتاج العالم إلى حل إداري وتدخل في تغيير السلوك البشري لتحويلها من مجرد معلومة يتم تجاهلها عند الحاجة إلى إجراء وعادة يجب الالتزام بها من قبل الجميع. مجالات الحياة الأخرى مليئة بالشواهد التي تدل على أن معرفة الفكرة الأفضل لا تعني بأي حال تحسن السلوك أو النتيجة. فعلى سبيل المثال في كرة القدم تدل الإحصاءات على أن فرصة فريق في التسجيل من ضربة ركنية لا تتجاوز 3.5% ومع ذلك تشاهد المدافعين يستميتون محاولين الاستحواذ على الكرة من أقدام الخصم وعدم إخراجها مباشرة. وفي تجربة داخل فصل دراسي، رسم الأستاذ خطين أحدهما أقصر بكثير من الآخر ثم سأل الفصل عن الخط الأطول. ما لم يدركه الطلاب أن أستاذهم اتفق مع أول مجموعة أجابت على السؤال على ترديد الإجابة الخاطئة، فما كان من المجموعة التالية إلا اتباع أقرانهم وتكرار ذات الاختيار الخاطئ رغم وضوح الجواب أمامهم. عالم الاجتماع مارك قرانوفيتر يشرح السر في هذا الفارق بين معرفة الصواب وفعل ما هو صائب في نظرية تعرف باسم «عتبة السلوك الجماعي» والتي تنص على أن الأفكار الجيدة لا تنتشر فقط لأنها تتفوق على الأفكار السيئة والعادات القديمة. فالسلوك يختلف عن المعرفة. إذ تعتبر المعرفة مكونا داخليا وفرديا يشكله كل واحد منا كما يريد مع ذاته. أما السلوك فهو مكون خارجي يعتمد تطبيقه على تقبل الآخرين له ومشاركتهم لذات الفعل. ففي داخل الجماعات التي تقصي المخالف وتنبذه قد يصبح السلوك الأسوأ أقل كلفة من السلوك الأفضل. ولذا تقع أي فكرة تحت حاجز عتبة من العدد الأدنى من الناس الذين يجب أن يتبنوها قبل أن تتحول إلى سلوك جماعي مقبول. وكل واحد منا - أيا كان علمه - يشترط وجود عدد أدنى من الزملاء الذين يشاهدون ذات المسلسل أو يمتلكون ذات الجوال أو يعالجون مرضاهم بذات الطريقة قبل أن يقتنع بسلامة هذا التصرف ويبدأ في مشاركة الجماعة سلوكها!