رسالة من روجيه غارودي لماكرون
الاحد / 22 / ربيع الأول / 1442 هـ - 19:33 - الاحد 8 نوفمبر 2020 19:33
ليت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اطلع على أفكار مسلم من بلاده، اسمه روجيه غارودي، قبل الإدلاء بتصريحه غير المسؤول في حفل تأبين مدرس التاريخ «صماويل باتي»، المدرس الذي لقي حتفه بجريمة بشعة بعد درس لطلابه عن حرية التعبير، مستشهدا بالرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم.
روجيه غارودي المفكر وابن المحاسب الذي أصيب في الحرب العالمية الأولى، تشرب مصائب الدنيا منذ أن ولد في مدينة مارسيليا عام 1913م، فأخذ من حكم الإمام الشافعي على مدى مسيرته الطويلة الكثير، وكأنه يردد بيتا من قصيدة الإمام «وكن رجلا على الأهوال جلدا/ وشيمتك السماحة والوفاء».
شارك غارودي في الحرب العالمية الثانية وهو في السادسة والعشرين من عمره، وتم نقله من قبل قائد فرقته العسكرية التي يخدم فيها إلى الجبهة الأفريقية بدلا من الجبهة الأوروبية، ذلك بسبب آرائه السياسية، ليجد نفسه - هذا المحارب الصغير - معتقلا لأكثر من سنتين في بلاد المسلمين كما يصف، في تجربة مفصلية هزت أعماق هذا الفتى الذي سيغدو فيلسوفا ذا شأن عظيم.
أسر هو ومجموعة من المناضلين ضد الهتلرية (نسبة لأدولف هتلر قائد ألمانيا النازية ودول المحور) في مدينة جلفة جنوب الجزائر، كانت الحراسة في المعتقل مشددة، يقودها قومندان فرنسي يمارس شتى أنواع القمع الاستعماري، حيث تخلو إدارة هذا المعتقل من أبسط حقوق للإنسان.
ساهم غارودي في تنظيم عدة مظاهرات داخل الأسر، اعتراضا على سوء أحوال المعتقلين وغياب حقوقهم الإنسانية، مما أثار حفيظة القومندان على هذا المتمرد الفرنسي، وفي إحدى مرات العصيان أمر قائد المعسكر القومندان جنوده (وكانوا جنودا عربا من الجزائر) بإطلاق النار على غارودي ورفاقه المتظاهرين بعد رفضهم الانصياع لأوامره. قابل الجنود أوامر قائدهم بالرفض، مما أدى إلى تهديدهم بالجلد بالكرباج والعقاب الأبدي، استمر رفض الجنود على الرغم من قسوة العقاب، فأصبح غارودي يدين بالفضل لحياته «لهؤلاء المحاربين المسلمين» كما يصف تلك اللحظة.
هذا المزاج النضالي لدى الكاتب الموسوعي لم يتداع أمام متطلبات عالم السياسية والشأن العام، فقد أمضى غارودي عامين نائبا وممثلا عن مدينته تاران، كان ينظم الإضراب لعمال الزجاج وفي الوقت نفسه يضع مشروع موسوعة نهضوية لفرنسا، بمناسبة مرور مئتي عام على موسوعة ديدروه، كل ذلك على متن دراجته النارية وهو يجوب دائرته الانتخابية، متنقلا بين عمال المناجم والفلاحين، هذا المزاج قاده إلى تبني شخصية تناكف الاستعلاء وإنكار الآخر، مقابل الحوار والتعلم من الحضارات السابقة.
آمن غارودي أن الحضارات الأخرى غير الأوروبية تعد كنزا من كنوز الإنسانية الفكرية والقيم الدينية المرادفة لها، آمن بذلك في زمن الاستعمار الغربي المشرعن دوليا يومها، وسعى في حياته العلمية إلى الحوار مع أصحاب هذه الحضارات، وليس إلى الدرس فقط، فهو أراد أن يكتشف الإنسان في كل حضارة عبر التاريخ، أو البحث عن إنسانية الحضارة عن طريق سبر روح الثقافات.
ومن بين كتبه التسعة التي تعرض فيها لثقافات عدة، كانت باكورة أعماله عن الحضارة العربية والإسلامية، لاحظوا عناوين مؤلفاته: «حوار الحضارات» عام 1977م، «ولكي يصبح الإنسان إنسانا»، و»وعود الإسلام» عام 1978، ثم «الإسلام يقطن في مستقبلنا» عام 1979م، «فلسطين والرسالات المقدسة» عام 1986، ولا يمكن إغفال كتابه بعنوانه اللافت «المسجد مرآة الإسلام» عام 1987.
يتحدث غارودي من خلال كتبه عن «الفرص الضائعة» التي أهدرها قادة العالم الغربي، وفي رأيه أن الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإسباني افترى على المسلمين والعرب افتراء منهجيا، فيقول في كتابه «حوار الحضارات» إن ما يطلق عليه الغرب «غزو المسلمين لإسبانيا» لم يكن غزوا عسكريا، إنما التفوق الحضاري العربي لعب دورا حاسما في إقناع سكان إسبانيا العشرة ملايين نسمة!
يستطرد بالتفوق الحضاري للعرب، وكيف كانت أوروبا غير قادرة في مستهل القرن التاسع الميلادي على القراءة، مستدلا بمكتبة دار الحكمة في بغداد التي افتتحها الخليفة العباسي المأمون عبر جيش من الكتاب والمترجمين، المكتبة التي حفظت آثار الحضارات العالمية القديمة، وكيف أن أحد الحكام الأمويين في الأندلس أوجد مكتبة في مدينة قرطبة تضم أكثر من مئة ألف مجلد، بينما لم تضم مكتبة شارل الخامس ملك فرنسا الملقب بالحكيم إلا ألف كتاب.
يتوقف غارودي في مؤلفاته عند أدوار مفكرين عرب مثل ابن خلدون والرازي وابن سينا وابن الهيثم وابن النفيس وأحمد بن ماجد والإدريسي وغيرهم، ويقول إن الغرب لم يكن يعرف من علم التاريخ غير تسجيل الأحداث، أما ابن خلدون فجمع بين الملاحظات الشخصية والتحليل للحدث والتأملات النظرية، فأصبح رائدا في علم الاجتماع السياسي حين تحدث عن تأثير المناخ والجغرافيا والظواهر الاقتصادية في حياة الشعوب، ليصل إلى أن ابن خلدون سبق مونتسيكو وميكيافيلي في البحث عما وراء الظواهر والأسباب.
وحسبما ذكر غارودي فإن العرب المسلمين لم يقتصروا على إحياء الثقافة القديمة فحسب، وإنما أسهموا بإبداع منقطع النظير في حركة الحضارة الإنسانية، مستنتجا أن أسطورة المركزية الأوروبية غير صحيحة، وأن الحضارة العربية الإسلامية من خلال ألف عام في الماضي أعدت أوروبا في المستقبل عبر إسبانيا وصقلية.
ترك غارودي دراجته النارية التي كان يلف بها العالم في شبابه، واستقل قطار الحضارة متنقلا في تاريخ الإنسانية، وفي عام 1998 أصدر جارودي كتابه السابع والخمسين بعنوان «أمريكا طليعة الانحطاط: كيف نعد للقرن الواحد والعشرين».
رحم الله روجيه غارودي الذي آثر لغة الحب والقانون على الحقد والانتقام. غارودي المسلم الفاهم والحافظ.
روجيه غارودي المفكر وابن المحاسب الذي أصيب في الحرب العالمية الأولى، تشرب مصائب الدنيا منذ أن ولد في مدينة مارسيليا عام 1913م، فأخذ من حكم الإمام الشافعي على مدى مسيرته الطويلة الكثير، وكأنه يردد بيتا من قصيدة الإمام «وكن رجلا على الأهوال جلدا/ وشيمتك السماحة والوفاء».
شارك غارودي في الحرب العالمية الثانية وهو في السادسة والعشرين من عمره، وتم نقله من قبل قائد فرقته العسكرية التي يخدم فيها إلى الجبهة الأفريقية بدلا من الجبهة الأوروبية، ذلك بسبب آرائه السياسية، ليجد نفسه - هذا المحارب الصغير - معتقلا لأكثر من سنتين في بلاد المسلمين كما يصف، في تجربة مفصلية هزت أعماق هذا الفتى الذي سيغدو فيلسوفا ذا شأن عظيم.
أسر هو ومجموعة من المناضلين ضد الهتلرية (نسبة لأدولف هتلر قائد ألمانيا النازية ودول المحور) في مدينة جلفة جنوب الجزائر، كانت الحراسة في المعتقل مشددة، يقودها قومندان فرنسي يمارس شتى أنواع القمع الاستعماري، حيث تخلو إدارة هذا المعتقل من أبسط حقوق للإنسان.
ساهم غارودي في تنظيم عدة مظاهرات داخل الأسر، اعتراضا على سوء أحوال المعتقلين وغياب حقوقهم الإنسانية، مما أثار حفيظة القومندان على هذا المتمرد الفرنسي، وفي إحدى مرات العصيان أمر قائد المعسكر القومندان جنوده (وكانوا جنودا عربا من الجزائر) بإطلاق النار على غارودي ورفاقه المتظاهرين بعد رفضهم الانصياع لأوامره. قابل الجنود أوامر قائدهم بالرفض، مما أدى إلى تهديدهم بالجلد بالكرباج والعقاب الأبدي، استمر رفض الجنود على الرغم من قسوة العقاب، فأصبح غارودي يدين بالفضل لحياته «لهؤلاء المحاربين المسلمين» كما يصف تلك اللحظة.
هذا المزاج النضالي لدى الكاتب الموسوعي لم يتداع أمام متطلبات عالم السياسية والشأن العام، فقد أمضى غارودي عامين نائبا وممثلا عن مدينته تاران، كان ينظم الإضراب لعمال الزجاج وفي الوقت نفسه يضع مشروع موسوعة نهضوية لفرنسا، بمناسبة مرور مئتي عام على موسوعة ديدروه، كل ذلك على متن دراجته النارية وهو يجوب دائرته الانتخابية، متنقلا بين عمال المناجم والفلاحين، هذا المزاج قاده إلى تبني شخصية تناكف الاستعلاء وإنكار الآخر، مقابل الحوار والتعلم من الحضارات السابقة.
آمن غارودي أن الحضارات الأخرى غير الأوروبية تعد كنزا من كنوز الإنسانية الفكرية والقيم الدينية المرادفة لها، آمن بذلك في زمن الاستعمار الغربي المشرعن دوليا يومها، وسعى في حياته العلمية إلى الحوار مع أصحاب هذه الحضارات، وليس إلى الدرس فقط، فهو أراد أن يكتشف الإنسان في كل حضارة عبر التاريخ، أو البحث عن إنسانية الحضارة عن طريق سبر روح الثقافات.
ومن بين كتبه التسعة التي تعرض فيها لثقافات عدة، كانت باكورة أعماله عن الحضارة العربية والإسلامية، لاحظوا عناوين مؤلفاته: «حوار الحضارات» عام 1977م، «ولكي يصبح الإنسان إنسانا»، و»وعود الإسلام» عام 1978، ثم «الإسلام يقطن في مستقبلنا» عام 1979م، «فلسطين والرسالات المقدسة» عام 1986، ولا يمكن إغفال كتابه بعنوانه اللافت «المسجد مرآة الإسلام» عام 1987.
يتحدث غارودي من خلال كتبه عن «الفرص الضائعة» التي أهدرها قادة العالم الغربي، وفي رأيه أن الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإسباني افترى على المسلمين والعرب افتراء منهجيا، فيقول في كتابه «حوار الحضارات» إن ما يطلق عليه الغرب «غزو المسلمين لإسبانيا» لم يكن غزوا عسكريا، إنما التفوق الحضاري العربي لعب دورا حاسما في إقناع سكان إسبانيا العشرة ملايين نسمة!
يستطرد بالتفوق الحضاري للعرب، وكيف كانت أوروبا غير قادرة في مستهل القرن التاسع الميلادي على القراءة، مستدلا بمكتبة دار الحكمة في بغداد التي افتتحها الخليفة العباسي المأمون عبر جيش من الكتاب والمترجمين، المكتبة التي حفظت آثار الحضارات العالمية القديمة، وكيف أن أحد الحكام الأمويين في الأندلس أوجد مكتبة في مدينة قرطبة تضم أكثر من مئة ألف مجلد، بينما لم تضم مكتبة شارل الخامس ملك فرنسا الملقب بالحكيم إلا ألف كتاب.
يتوقف غارودي في مؤلفاته عند أدوار مفكرين عرب مثل ابن خلدون والرازي وابن سينا وابن الهيثم وابن النفيس وأحمد بن ماجد والإدريسي وغيرهم، ويقول إن الغرب لم يكن يعرف من علم التاريخ غير تسجيل الأحداث، أما ابن خلدون فجمع بين الملاحظات الشخصية والتحليل للحدث والتأملات النظرية، فأصبح رائدا في علم الاجتماع السياسي حين تحدث عن تأثير المناخ والجغرافيا والظواهر الاقتصادية في حياة الشعوب، ليصل إلى أن ابن خلدون سبق مونتسيكو وميكيافيلي في البحث عما وراء الظواهر والأسباب.
وحسبما ذكر غارودي فإن العرب المسلمين لم يقتصروا على إحياء الثقافة القديمة فحسب، وإنما أسهموا بإبداع منقطع النظير في حركة الحضارة الإنسانية، مستنتجا أن أسطورة المركزية الأوروبية غير صحيحة، وأن الحضارة العربية الإسلامية من خلال ألف عام في الماضي أعدت أوروبا في المستقبل عبر إسبانيا وصقلية.
ترك غارودي دراجته النارية التي كان يلف بها العالم في شبابه، واستقل قطار الحضارة متنقلا في تاريخ الإنسانية، وفي عام 1998 أصدر جارودي كتابه السابع والخمسين بعنوان «أمريكا طليعة الانحطاط: كيف نعد للقرن الواحد والعشرين».
رحم الله روجيه غارودي الذي آثر لغة الحب والقانون على الحقد والانتقام. غارودي المسلم الفاهم والحافظ.