الرأي

تدفئة زبدة السوشال ميديا

عبدالكريم ثقيّل
مثل أي أرنب آخر في أغاني الأطفال الكلاسيكية، كنت - في هذا العصر الترامبوليني المطاطي- أقفز بين مواقع التواصل الاجتماعي، لا لهدف معين ولا لشيء محدد، ولو كان لي هدف محدد ما تقفّزت هنا.. محرقا بتلك القفزات وقتي ومشاعري لا سعراتي الحرارية.

حينها كنت قد خرجت من حوض أسماك البيرانا المفترسة المسمى تويتر، وانطلقت إلى حديقة حيوانات العصر الحديث، ذات المساحات الشاسعة، والتنوع المهول في أعداد الكائنات، وبأشكال وأنواع لا تحصى، و كل كائن منها له قفصه الالكتروني السنابشاتي المخصص له وحده، حيث يرقص ويقفز ويهرف بما لا يعرف بكل أريحية، مطلقا زئيره الهجين معلنا أنه ملك هذا القفص.

وفي أثناء عبوري بين هذه الأقفاص، بين من يتهمني بجهلي بكذا ومن يسخر من الشاي الذي أشربه كل هذه السنوات، وآخر يشرح لي الفرق بين الليمون الأسود والبني، توقفت قليلا لأراجع كل هذا السيل العارم من الأصوات والصرخات والآراء، وأقول (آراء) على مضض، فما يحدث هنا أقل قيمة بكثير من نداءات تزاوج الطيور في فصل الربيع.

وتساءلت عند وقوفي: ما الذي يأتي بي هنا؟ ما الذي يدفعني للمجيء؟ ما هو هذا الحبل الرفيع الذي يوثقني في هذا الكرسي الالكتروني لحضور أتفه مسرحية من مسرحيات الوجود البشري؟

في هذه الأثناء بدأت تفحص الوجوه التي كنت أظن أني أعرفها، فهذا الشخص ، الذي قد عرفته منذ سنين، منذ دخوله إلى قفصه تغير صوته الذي أعرفه، وتبدل أسلوبه المعتاد في الكلام، وهذه المواضيع الذي يتحدث ويصرخ عنها ويهيج حولها لا تعنيه أبدا، حتى وجهه الذي كنت أعرفه جيدا كأنه بدأ يتغير، وهو ما إن يخرج من هذا القفص حتى يعود حملا وديعا، أهدأ من فراشة وأنعم من زبدة دافئة!

بعد تفكير مديد وتأمل شديد، قلت: لعل في هذا كله شيئا من الهروب الوجودي للإنسان الحديث، الذي فشل أن يكون شيئا ذا طابع خاص وقيمة متفردة، وهو يمارس التهريبية - أظن أنها تترجم هكذا - من خلال هذه النماذج الكاريكاتورية للواقع، فهي تبالغ بالواقع وقد تختلق حتى واقعا جديدا لها.

كل هذا ليجد الإنسان ما يلقي عليه قصوره الحالي، ويتذرع بكل هذه المعلومات التي لا أصل لها، على أمل أنه يوما ما سيستفيد منها. والشيء بالشيء يذكر، يقول طباخ مشهور: أفضل طريقة لتدفئة الزبدة، وضعها في المايكرويف خمس ثوان.

Plutonianshore_ @