الرأي

في تعايشك مع مواقع التواصل

عبدالعزيز الخضر
يغرق جدا في مواقع التواصل دون أن يمتلك مهارة هذا الإغراق، فيشعر بالملل واللاجدوى. يقرر بعدها الرحيل ويحوله إلى قصة وبكائيات شخصية، واحتقار لهذه المواقع، ثم يأتي آخرون يتباكون معه، وحسرة على فقدان الوحي الثقافي والعلمي بعده! تتكرر مثل هذه الحالة بسبب عدم التوازن في التعامل مع هذه الأدوات المتجددة، وغيرها منذ عصر المذياع، وهي في الحقيقة مشكلته الشخصية، وليست مشكلة هذه المواقع. لأنها مثل أي شيء في الحياة، فلكل شيء طبيعته ووقته وطريقته. هدوء المكتبة لن تجده في ضجيج السوق والملعب والشارع، وإدارة ذاتك والتكيف مع كل حالة وجديد أسهل من أن تطالب الأشياء الأخرى بتغيير طبيعتها. قمت بتجربة خاصة بعدم فتح كل رسائل الواتس اب من القروبات لعدة أيام، وخفض متابعة تويتر.. لقياس مدى الفرق، وما الذي يحدث!؟ أولا ستذهل من تراكم الرسائل والتعليقات حيث تصل للمئات ثم الآلاف بوقت قصير. ومع أن الكثير منها قصير ومجرد تعليقات وضحك عابر، ومقاطع وصور مكررة، فتشعر أحيانا بأنها مجرد تفاهات متراكمة، ومن المفيد حذفها بدون معرفة محتواها، وهذا يبدو مكسبا. لكن لاحظت بأنه من بين هذا الركام الهائل.. تفوتك تفاصيل كثيرة وقضايا وأخبار متداولة، فتفاجأ بها.. بجلسة مع أصدقاء، أو اجتماع عمل.. وحتى التناغم مع حديث الآخرين وتعليقاتهم حول مقطع أو موضوع يصبح مرتبكا عندك، مع شعور بوجود شيء مفقود، ولو طالت مدة هذه المقاطعة ستزداد حدة هذا الانفصال وتتراكم الأخبار والنكات التي يبتلعها الوعي الشعبي العام بدون أن تمر عليك، والأخطر أن لا تشعر بأنها فاتتك.. فتقل حساسيتك بواقع مجتمعك ومتغيراته، ولن يستطيع أي موظف مهما كانت قدراته على مساعدتك بردم هذه الفجوة في مسايرة حركة الواقع، ولهذا ستجبرك هذه المواقع بأن تكون موجودا فيها بصورة ما. هل هناك فارق بين التواصل الافتراضي والواقعي نعم هناك فوارق، لكن قوة الواقعي وحميميته، لا يعني هامشية الافتراضي خاصة عندما يكون الآخر معروفا.. وليس مجرد كائن مبهم بمعرفات، ولهذا نسميه افتراضيا مجازا، وإلا فهو الواقع نفسه بأدوات تواصل أخرى. خلقت هذه المواقع واقعا آخر، ولا يمكن العودة للماضي، ولهذا نحتاج دائما أن نرفع من قدراتنا بالتكيف معها بأقل قدر من الخسائر وليس بهجائها، كما تكيفنا مع الراديو والتلفزيون والفضائيات، وحتى هذه المرحلة هي في حالة تغيير مستمر، ولا يمكن التنبؤ بمستقبلها القريب. ستفقد كثير من موقع التواصل جاذبيتها مع الوقت عندما يصبح الجهد المبذول فيها أقل من العائد، حيث تتأثر الجدوى فيحدث الانسحاب التدريجي كأي سوق لصالح منتج آخر، وهو ما حدث للمنتديات من قبل، فيظهر أحيانا نوع من التشتت، وإعادة التموضع الجماهيري. الأوقات الضائعة والمستهلكة في هذا العالم أكثر من أن يتم حصرها، وهي ضريبة مرحلة، فبقدر ما أعطتنا من سرعة الوصول للمعلومة وسهولتها للجميع، فإنها تعمل على تعطيل مهارات أخرى، ما لم ينتبه لها الفرد ويستحضر كيفية التعامل معها، بأن يديرها ولا تديره، وهذا ما يحدث للكثيرين للأسف. من أبرز تحديات مواقع التواصل وزخمها اللحظي، أنها تحدث تشتتا ذهنيا بالحالتين، فالابتعاد كالاقتراب منها، فإذا ابتعد عنها يحضر التفكير بأن هناك شيئا يفوتك فتشعر بالقلق، ويخلق شعورا بالوحدة وأنت في وسط مجتمعك. في أحيان كثيرة نشعر بالسخط من هذه المواقع، لأنها قلبت الموازين وجعلت الهامشي يتصدر ويزاحم الأصيل في حياتنا، لكن واقعيا سيظل الشيء الثقيل ثقيلا وأعمق زمنيا. من المهم أن يستوعب الشخص آلية عمل هذه المواقع، ومدى تأثيرها بدون مبالغة أو تحقير، ويمتلك الإرادة التي تجعله يسيطر عليها ويوظفها لصالحه. أحد طرق السيطرة عليها أن تتعود على عدم تصفحها بأوقات جلوس ثمينة بحيث يمكن توظيفها بعمل وتطوير منتج، وبدلا من ذلك تدع تصفحها والمشاركة فيها بأوقات مرنة أثناء الحركة كالمشي والانتظار والازدحام، والفواصل الزمنية اليومية وهي كثيرة خلال اليوم والليلة. هناك عامل آخر يغفل عنه كثير من جمهور هذه المواقع وهو نوعية ما يتابعه ويتلقاه، وهو يعتمد بالدرجة الأولى على الانتقاء والاختيار الشخصي، ويؤثر عليك مباشرة نفسيا وذهنيا، ويصنع رؤيتك للواقع.. ولهذا يجب أن تكون حذرا، شديد الوعي مدركا لنوع اختياراتك وتنوعها، لتخلق توازنا بالرؤية ، بحيث تربطك بالواقع الذي يعيشه مجتمعك بدون تزييف أو تجميل من خلال زيارتك اليومية لها. فالانفتاح والانغلاق في هذا العصر.. أصبحا قرارا شخصيا يعود إليك، بعد أن كانا في ماض قريب بيد الوزراء ورؤساء الدول.