الرأي

إجلالا لوثائق التاريخ الناطقة

شاهر النهاري
مكتبة حية، لا يمكن تلمس بعض عزيز وثائقها دون الهيام عشقا بحبرها وخطوطها، وكربونها المشع.

بندر بن سلطان المدهش في طلته الأخيرة عبر قناة العربية، ببرنامج أعاد المشاهدين للتليفزيون، أثبت أن التاريخ ينحني أمام رموز المعرفة والشرف والإخلاص والخبرة، والدهاء.

كل وهج من شمس الأمير بندر طاقة كونية تستحث الأقلام والروايات، بطغيان التمكن والرصانة والحكمة، وبلوغ العصامي أريحية الصفوف الأولى، ومصاحبة أعظم ملوك ورؤساء ومحركي سياسة العالم، والكل له عارف، ومنه يستزيد، استنارة تعيد تنظيم الأبجديات في سطور المكان والزمان والمجال.

بندر خير شاهد على مصداقية ورسوخ شرف الوطن، والقرين لسمو خطواته، بحب وإخلاص وعمق وتواضع منقطع النظير.

بندر جزء لا يتجزأ من تاريخ الدبلوماسية السعودية في أهم وأضيق ممراتها، وسمو وروعة إنجازاتها.

أسميه الصندوق الأسود، الذي يقطع بحد لسانه قول كل خطيب.

حضرناه من قبل في وثائقيات عن الملك فيصل، والملك فهد، وكان بجاذبية تعليقاته يحملنا لفضاء أروقة التاريخ، كونه لصيق أغلب الأحداث، وميثاق الاجتماعات، وعينا وأذنا صقر يلتقط ما يرف خلف الكواليس، فنسمع وننصت، ونحن على يقين بأنه يمتلك كل وعي الإجابات العارفة المقنعة الشجاعة.

ديدن السعودية العظمى، بكياسة وسياسة كانت تحكم، وما تزال فاعلة مؤثرة في كل حدب ونقرة على وجه الأرض؟

سعودية يمنى خير لا تعرف يسراها قدر وحدود هباتها ودعمها بتواضع وحب للخير والسلام وبما يبهر، ويقف صلبا بنجابة وشهامة، والغوث لكل أخ محتاج مظلوم.

تولى بندر مقام السفير السعودي عند أهم دولة عالمية (1988-2005) وصاحب رؤساء وزعماء العالم، ولا أدل على أهميته من نصيحة الرئيس بوش الأب لابنه الجديد على الرئاسة، بأن يجلس مطولا مع الأمير بندر لمعرفة تعقيدات سياسات الشرق، والاستنارة عن خفايا السياسة العالمية بعمق وندرة ومصداقية ما في جعبته السياسية.

وشغل منصب رئيس الاستخبارات السعودية (2012-2014)، ثم عُين مستشارا للملك عبدالله، ما يؤكد التصاقه بالحدث والقرار والسر السعودي.

ورغم تقدم سنه ووضعه الصحي، تهافتنا ننهل من وثائقيته عن علاقات السعودية بالشعب الفلسطيني، والتي باح فيها صدره بمكنون صبره حزمة أسرار، لم يكن يود الخوض فيها لولا تحدر مستوى الطرح وتمادي قيادات فلسطين بالقبح وإنكار الجميل، للدرجة التي تستوجب التوقف والتنبيه وفضح الخلل، وتوضيح نبل وفروسية الشهامة، التي جبلت على سترها قيادات السعودية تعففا، منذ بداياتها حتى يومنا.

شهادة على العصر، وردع لمن تسول له نفسه التشكيك في رعاية السعودية الكريمة لأهل فلسطين الشرفاء الأوفياء، عكس ما تدعي طواويس قياداتها المنتفضة.

أي سحر جذاب في طلة بندر المباركة، حينما جمعنا حول الشاشات أطفالا مندهشين متتبعين لمعة عين جدهم، وهو يحكي الواقع، بلسان صدق عربي مبين، ومشاعر حسرة واضحة أكدتها لغة جسده، فيسارع أغلبيتنا لتقبيل جبهته على الشاشات.

ما قاله كان رجع دواخلنا نحن السعوديين، ولكنه أحدث توسونامي عظيم طوى أمواج الخليج ورسم تناقض العالم العربي.

أعرف أن كثيرين قد كتبوا عن محتويات الوثائقية وأبدعوا في التفصيل، وأقول لعلي أن أضيف هنا إهابة مني بشخص الأمير الإنسان، ووطنيته ومعرفته ومحبته وإخلاصه وأشكره، ثم أهنئ قناة العربية على عمل وثائقي جوهري ثمين شفاف تاريخي كهذا.

alnahariShaher@