معرفة

صندقة طاهر

مقابسات

«الصَّندقة» مفردة عاميَّة شائعة في كلام الناس، وأذكر أن هذه المفردة كانت جزءا من المدينة القديمة، التي أَلِفَتْ حاراتها وأزقتها هيئة «الصَّندقة»، وجمعها «صَنادِق»، إلى جوار البيوت الشعبية أو المسلحة، أو نصف المسلحة، وعادة ما تبنى «الصَّندقة» من ألواح خشبية، وربما استُعمِل «الزِّنك» في إنشائها، وخاصة سقفها، ومثلما يتخذها الناس سكنا لهم، فإنها تُبنى في الأحوشة والسطوح لتربية الحمام أو الدجاج. وعلى كل حال كان منظر «الصَّندقة» معتادا ومألوفا، ولعله لم يدلَّ على تفاوت طبقي حاد أو ما يشبهه، بل إن «الشاليهات» القديمة التي تحف بناحية «أبحر» في جدة، ويرتادها المرفَّهون في الزمن القديم، إنما كانت مادتها الخشب، وإن دعاها الناس «كبائن» أو «شاليهات»، ونستطيع أن نعدها شكلا متطورا للصَّندقة! وعلى كثرة دوران مفردة «صندقة» على الألسنة لم أفكر في اشتقاقها وأصلها، وكان يكفيني أن أنطق الاسم فأستدعيها، وحين أردت مزيدا من صفتها، فزعت إلى «المعجم الوسيط»، الذي أخرجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، أستفتيه، وقلَّبْتُ صفحاته، ولم أظفر بالكلمة، وكأن المجمع الذي أثبت قدرا صالحا من الكلم العامي في معجمه، لم يرض عن هذه الكلمة، وما يدرينا فلعله لم يعرفها، مع أنها من الكلم الذائع الشائع، ومع أنها، لو تأملنا قليلا، مأخوذة من كلمة «صندوق»، وهي كلمة معجمية، لا يشك أحد في معجميتها. قلت إن هيئة «الصَّندقة» في الحارة القديمة، في الزمن القديم، لم تكن لتنبئ عن تفاوت طبقي، وعسى أن يكون أصل ذلك ما كان عليه عامة الناس من فقر أو ما يقرب من الفقر، قبل أن تهز «الطفرة» الاقتصادية قيم المجتمع وتقلب موازينه رأسا على عقب، وتتسع الهوَّة بين الفقراء والأغنياء، وتصبح «الصَّندقة» علامة على مجتمع مختل غير عادل، وبات الناس يستنكرون أن تسكن أسرة في «صندقة»، وعدُّوا ذلك صورة من صور الظلم الاجتماعي، وحق لهم أن يقولوا ذلك. إذن لم تغب هذه المفردة في كلام الناس، وإن استنكروا أن يجبر الزمان طائفة منهم على أن يتخذوها سكنا لهم، وعلى قدر شيوع هذه المفردة، فإنها أحدثت أثرا في نفسي، وأحسست مقدار ما انطوت عليه من طرافة، ساعة وقع بصري على مجموعة قصصية لطاهر الزهراني، تخيَّر اسم «الصَّندقة» عنوانا لها، وقبل أن أشرع في قراءة شيء منها، أحسست قرب ما بين هذا المجموع وبيني، فمفردة «الصَّندقة»، وإن كانت جديرة بأن تكون مفردة معجمية، مفردة حارِية – نسبة إلى الحارة - تُلْقِي بأثرها في وجدان من ألف الحارة القديمة التي كانت جزءا حيا من روح جدة القديمة وشخصيتها. في «صندقة» طاهر الزهراني قدر كبير من ذلك الرُّوح. فيها شغب ابن الحارة وطيبته وعبثه، يُضَاف إليه فلسفة ناقمة ناقدة تنضح بها قصصه التي لا تنهك القارئ، بل إنها تقرأ سريعا، ولكنها ليست تنسى سريعا، أو هذا ما أحسسته، وأنا أُمَنِّي النفس بأن أعود إليها مرات، بعد أن قرأتها قبل سنوات، ولم أنسها، ولم أستطع نسيانها، وكنت كلما رأيت طاهرا تُسْرع «صندقته» إلى خاطري، وأغبطه على أن وُفِّقَ حين اهتدى إلى هذا الاسم، وعلى أن اتخذه عنوانا لقصصه هذه القصيرة. على أن «الصَّندقة» التي لم تكن لتحمل في أعطافها، في الحارة القديمة، معنى للتفاوت الطبقي الكبير، لم تكن، كذلك، في «صندقة» طاهر الزهراني، فهذه «الصَّندقة» تنطوي على حس ناقد ناقم، تنقد «النُّخبة» وتنقم عليها كذبها وأحاديثها الملفَّقة التي تسكّها في عبارات باردة تافهة، يحسبها كُتَّاب السلطة والذين يقتاتون عليها تخدع الناس عن حياتهم هذه الصعبة المنكرة، أو كأنهم توهموا أن أولئك البائسين سيقتاتون في غدوهم ورواحهم على هذا العبث الذي يصبونه في أدمغة الناس في الصحيفة والتلفاز والمذياع، وربما كانت «الصَّندقة» التي يلوذ بها بطلا تلك القصة هي الحقيقة الثابتة التي لم يستطع الإعلام المأجور ولا الكُتَّاب الكاذبون تطريتها بمعسول كلامهم، ونستطيع أن نجعل من «الصَّندقة» القابعة في «الكورنيش» الجنوبي المهجور، مدفن تلك الأكاذيب التي يُمسك بها بطل القصة، في عبارات ظهر عليها في صحيفة قديمة، يثني فيها كاتب سُلطة ويمدح بفحش ما لا يسميه طاهر وما يعرفه القارئ «لأنها وزَّعتْ بطانيات في العاصمة»! والحقيقة التي تعرفها «الصَّندقة» أن البطل وصديقه منصورا تخرجا في الثانوية العامة ولم تقبلهما الجامعة، وأنهما كانا يبحثان عن وظيفة في الصباح، ويذهبان في المساء إلى «الصَّندقة»، ينسيان فيها أحزانهما بالتدخين وعزف العود والغناء، وبينما منحت «الصَّندقة» الصديقين الفرح والغناء، وربما السُّخر والهزْل، غالت المدينة التي نَمَّقها كُتَّاب السُّلطة منصورا حين دعسته مركبة فاخرة، قبل أن يختلف إلى الجامعة، وقبل أن يظفر بعمل. كل ما في «صندقة» طاهر مهمل ومتروك، وإن القصة لتمضي في حشد ما يقوِّي الهباء والتَّفسُّخ: «الصَّندقة» نفسها في كورنيش جنوبي مهجور، وثَمَّ «زُوليَّة مهترئة»، عليها «علبة سجائر»، وفي الركن «مذياع» يعلوه قتام، وأوراق «صحيفة» قديمة، وشابان سخرا وأمعنا في السُّخر فانتبذا ذلك المكان القصي، وأشبعا هذا العالَم الظالم سبا وسُخْرا، وكأن «الصَّندقة» تفضح هباء هذه المدينة، وكذب السُّلطة وإعلامها وكُتَّابها. bafaqih.h@makkahnp.com