الرأي

الشيخ علي بونابرت!

عبدالإله الشريف
أمرنا الله في كتابه الكريم بأن ندرس أحوال الأمم السابقة حتى نتعلم من تجاربها «أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كان عاقبة الذين من قبلهم..»، فالتاريخ ليس مجرد قصص للتسلية نرويها، بل (الغاية) هي استخلاص الدروس المستفادة من الماضي لإصلاح الحاضر والمستقبل، و(الوسيلة) هي إعمال العقل وتحليل الأمور بتبصر ومنطقية، لكن مع الأسف نجد أن السمة الغالبة على أبناء الأمتين الإسلامية والعربية في التعامل مع الأحداث (حاضرا وماضيا) هي الاستسلام للمشاعر والانجراف حسب العواطف، لذا نجدنا نكرر ذات الأخطاء ونتلقى الصفعات دون أن نظهر أدنى درجات المقاومة والرغبة في الإصلاح.

وابتلينا في الأمتين الإسلامية والعربية بسهولة خداعنا بالمظهر الديني وسرعة وقوعنا تحت تأثير الشعارات الرنانة، وهذان العاملان وعلى مدى تاريخنا لم يدفعا باطلا ولم يجلبا حقا، بل كانا سببين في وقوع كثير من الويلات علينا.

عندما دخل القائد الفرنسي نابليون مصر في نهاية القرن الثامن عشر، وعلى الرغم من القوة العسكرية المصاحبة له إلا أن القاهرة استعصت عليه داخليا وشهدت العديد من الاضطرابات ولم يجد نابليون حلا أمامه سوى (عباءة الدين) فارتدى لباس التقوى واجتمع بشيوخ القاهرة وانتشر خبر اهتمامه بالإسلام ورغبته باعتناقه، صدقه عامة الناس فقد مس (الجانب الروحي) لديهم وأطلق المصريون عليه اسم ( الشيخ علي بونابرت)!

في التاريخ العربي الحديث ظهرت في الأمة قيادات وأحزاب سياسية أتقنت العزف على أوتار القومية العربية والإسلامية، سمعنا من ينادي بشعارات العروبة ووحدة الأمة العربية وحريتها، ومن يتمسك بشعار الإسلام ووحدة الأمة الإسلامية، كل ذلك لتحقيق مكاسب سياسية وجماهيرية فأفعالهم بعيدة عن أقوالهم.

من أمثلة تلك القيادات، زعيم العروبة وحزب البعث الذي جمع حوله الملايين من المتيمين والذين صدقوا شعاراته وأطلقوا عليه (بطل القادسية). هذا القائد لم يتوان عن غزو جاره ليلا فقتل وروع وأفسد وسلب شعبا (عربيا) حريته، ضاربا عرض الحائط بمبادئ الدين والعروبة و(حزب البعث) أيضا، ورفض حلول الأمة العربية (بالانسحاب من الكويت) وظل لآخر لحظة يردد ويستخدم الشعارات الجوفاء، إذ اشترط مقابل الخروج من الكويت مغادرة العدو المحتل لأرض فلسطين! المضحك المبكي أن هذا القائد الملهم أمر منتخب بلاده لكرة القدم بالانسحاب من دورة الخليج السادسة بالإمارات و(أهدى) البطولة للكويت، (حرصا منه على الروح المعنوية للكويت) التي كان منتخبها يستعد للمشاركة في نهائيات كأس العالم 1982!

والآن نعيش فترة (الزعيم الإسلامي الشامل) الذي لا يقل عن سابقه في عشقه للشعارات والخطب الرنانة، والذي لا يتورع عن استغلال كل مناسبة للتذكير بالأخوة الإسلامية ووحدة الأمة ليرفع رصيده عند الشعوب الإسلامية التي صارت تعتبره أمل الأمة لإعادة أمجادها وتاريخها دون أن يستخدموا عقولهم لرصد أفعال (رجب طيب إردوغان).

يتفاخر أنصاره بأنه تحدى الكيان المحتل بإرساله (سفينة مرمرة) ضمن أسطول الحرية لتقديم المساعدات لقطاع غزة المحاصر، وكيف هدد الصهاينة بالرد الصاعق على قتل بعض أفراد تلك السفينة! حينها توقع العالم أن هجوما عسكريا منتظرا من أنقرة تجاه تل أبيب، وبالفعل شنت تركيا حملة عسكرية لكنها ضلت الطريق، فاتجهت الحملة صوب الأكراد شرقا بدلا من الصهاينة جنوبا!

إن الدعم الصوري لقضية فلسطين من خلال الانتقادات والتصريحات المتكررة التي يوجهها إردوغان للعدو الصهيوني، يعتبر تجارة مربحة له سياسيا وشعبيا، ولا يهتم بها الصهاينة، لأنهم يعلمون أن العلاقات جيدة مع إردوغان خلف الكواليس، وهذا ما يعكسه واقع الحال، إذ كيف يجتمع العداء (الكلامي) من نقد وهجوم لاذع وعلاقات دبلوماسية تركية (واقعية) مع الكيان المحتل؟ ليس هذا فحسب، بل العلاقات بين تركيا والكيان المحتل تشمل كافة المجالات؛ إذ تتراوح بين السياسة والتجارة والتعليم والثقافة والسياحة.

الإعلام المناصر لإردوغان الذي يزعم نصرة الفلسطينيين في كل وقت، يغض الطرف عن موضوع فرض تأشيرة على الفلسطينيين حتى يدخلوا إلى الأراضي التركية، فيما يستطيع الصهاينة أن يدخلوا تركيا من دون الحاجة إلى تأشيرة!!

الجماعات والأحزاب الإسلامية التي لا تفتر عن تكريس فكرة إردوغان زعيم الوحدة الإسلامية، أين هم من استخدام ورقة اللاجئين السوريين كوسيلة للضغط على أوروبا، للحصول على مقعد في الاتحاد الأوروبي، أين هم من تصريحه عقب تصويت الاتحاد الأوروبي على (تجميد مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد) حيث قال مزمجرا (تركيا لا تفهم لغة التهديد، وإذا بالغتم في إجراءاتكم، سنفتح المعابر الحدودية أمام اللاجئين).

حتى مسلمو الشرق لم يسلموا من تقلباته وشعاراته، فمع كل فرصة لمناقشة أوضاع مسلمي الصين، يشن إردوغان هجوما على الدول العربية والإسلامية تجاه صمتهم على أوضاع مسلمي الصين، ثم في الغرف الخلفية يعقد الصفقات مع الصين ويقدم التنازلات. ذكرت صحيفة «تليغراف» البريطانية في أحد تقاريرها إن الرئيس التركي يساعد الصين على استعادة مواطنيها المسلمين المنشقين (في إشارة لمسلمي تركستان الشرقية - الإيغور)، بإرسالهم إلى دولة ثالثة مقابل الحفاظ على استثمارات بكين في تركيا!

قبل الختام:

من حق كل قائد أن يبحث عن مصالح بلاده لكن بدون استغلال فج لشعارات الوحدة العربية والأخوة الإسلامية، فهل نتعلم من التاريخ؟ هل تستمر الشعوب تحت تأثير شعارات هذا الزعيم وذلك القائد؟