الرأي

كتابك في عينيك!

عبدالحليم البراك
يتحدث المثقفون عن أنهم يكادون لا يعيشون بدون الكتاب الورقي، وأنه إن لم تتحسس أيديهم ورقات الكتاب فإنهم لا يستطيعون أن يقرؤوا، وإن لم تشمّ أنوفهم الصغيرة آثار بقايا المطبعة ورائحتها فإنهم كمن لم يقرؤوا، وأن الكتاب الورقي هو كتاب حي، أما الكتاب الالكتروني فإنه كتاب لا روح فيه ولا طعم له، وأنه يفتقد كل أنواع الحميمية التي يعيشها المثقف القارئ مع صديقه الكتاب، فلا يمكنه أن يتخيل نفسه إلا والكتاب التقليدي الورقي بين يديه، وإلا فإن القراءة تبدو أمرا عسيرا مستحيلا، بل يكاد يُلغي فكرة القراءة من رأسه أساسا، فلم ولن يحاول قراءة كتاب الكتروني، سواء بصيغة البي دي إف، أو بأي صيغة الكترونية أخرى أو عن طريق قارئ أمازون أو جرير الالكتروني!

وحتى نتخيل الفكرة بطريقة لطيفة، دعونا نفكر فيما بعد الكتاب الالكتروني وكيف تفكر الأجيال، فتبدأ الحكاية أنه بعد 50 عاما (أي عام 2070) لن تضطر لحمل أي جهاز لقراءة كتاب، بل سترسل أي كتاب إلى شريحة خاصة، مثبتة داخل ذراعك، بين اللحم والدم تحديدا، وهي غير ضارة صحيا، فيها هاتفك المحمول، وكمبيوترك المحمول، بل ومعلوماتك الائتمانية أيضا، وأشياء أخرى لم نكتشفها الآن! هذه الشريحة يمكنها بمجرد أمر صوتي أن تعرض الكتاب أمام عينيك فتقرأ الكتاب بلا لوح مادي أو الكتروني، وأنك بدلا من تحميل كتاب من مواقع رديئة تكاد تكون سارقة للكتاب أو مستغلة لزائر الموقع بإعلانات مؤذية، فأنت في ذلك المستقبل، تحمل مكتبة الكونجرس كاملة أو المكتبة البريطانية في لندن كاملة بمخطوطاتها العتيقة، بل إن مكتبة الملك فهد الوطنية ومكتبة مؤسسة الملك فيصل الخيرية ومكتبة الإسكندرية كلها بين يديك عن طريق شريحة في يدك، لحظتها سيقول أطفالنا الذين شابوا على كتب البي دي إف ما يلي:

أولهم: لقد تعودت على القراءة بالأجهزة اللوحية، ولا أشعر بطعم الكتاب إلا على صيغة البي دي إف ولا أستسيغه في صيغة شريحة الكترونية مشعة.

الثاني: إن الكتاب بصيغة البي دي إف رغم أنها صيغة رديئة لا تطرح خيارات الذكاء الصناعي فيها، إلا أنها لطيفة وتراثية تستحق أن نحتفظ فيها، وعلينا محاربة الكتاب الشريحي (الاسم من عندي أنا!).

ثالث: رغم أني أحمّل كل كتاب على حدة، وليس مكتبة كاملة أو مكتبتين في ثانيتين، لك أن تتصور أننا كنا نبحث في قوقل عن كتاب وتحتاج لدقائق لتحميله عكس ما يحدث الآن فأنت تحمل مكتبة كاملة في ثانية، إلا أننا لا نستشعر القراءة إلا بتلك الطريقة القديمة.

الرابع: هل تذكر أن الكتاب العربي يحمّل بصيغة بي دي إف على شكل صورة، بصورة قانونية، وغالبا بصورة غير قانونية، ولا يمكنك أن تبحث عن كلمة في داخل الكتاب ولا تضع خطا إلا بطريقة بدائية ولا تظليل إلا بطريقة فجة (ثم يضحكون بطريقة فجة)، ومع هذا كله أحبه أكثر من هذه الطريقة الحديثة التي تعتمد على تقنية يقولون إنها سحرية أقرب منها للتقنية الحقيقية، فهي تعمل ملخصات سحرية لكل ما تود فعله كما لو كانت تفكر عنك والعياذ بالله.

الأخير: أنا مؤمن بأن ما لا تلمسه بيدك لا روح له، فلذلك لا بركة بالعلم الذي لا يأتي من الأجهزة اللوحية التي ولدنا معها، أما تلك الشرائح التي يتهور أولادنا بتركيبها داخل أذرعتهم فبلا شك آثارها سيئة عظيمة ستتضح بعد 20 أو 30 أو 40 سنة، وربما كانت سحرا والعياذ بالله.

والخلاصة، علينا أن نسابق التقنية وإلا ستسبقنا، وعلينا أن نقبل أن نكون في أجواء أبنائنا من تقنية وثقافة بالضبط كما كنا نطالب آباءنا وأمهاتنا أن يكونوا بحجم التطور الذي عشناه، ولكنهم كانوا يتمسكون بالماضي الذي يعرفون، كانوا يخافون من الطائرة ونحن نستمتع بها، ويخافون من الهاتف الذكي ويكتفون بهاتف المنزل السلكي، فإما أن تختار خيارهم ونتمسك بالماضي، وهذا حق لكَ لكن سيسبقك الناس، أو أن تواكب التقنية والأجيال فتكون بحجم التحدي فيكبر عمرك ولا يكبر قلبك، فتبقى شابا حتى الممات!

Halemalbaarrak@