تفاعل

دوستوفيسكي والبدايات

طارق حريري
«قدرة إبداعية شاملة، لا يستطيع حشد كبير من رجال الدين وعلماء النفس والاجتماع مجتمعين تقديم عمل كالإخوة كارمازوف» ميخائيل نعيمة.

ولد الكاتب والروائي الروسي فيدور ميخائيل دوستوفيسكي عام 1821في مدينة سان بطرسبيرغ في عهد القيصر ألكسندر الأول لأب كان يعمل جراحا، وكان سكيرا صعب الطباع، وأم عليلة في حي بائس. توفيت أمه وهو في الـ 15 ثم توفي والده بعدها بعامين، عانى من الصرع منذ عامه التاسع. كل تلك الظروف الصعبة خلقت الروائي العظيم الذي عرف المعاناة والآلام التي عبر عنها في قصصه ورواياته، حتى قال فيه الكاتب الروسي مكسيم غوركي «صور آلام المظلومين والمذلين وآلام الإنسان عبر قرون.

بدأ حياته الإبداعية شاعرا لكنه انتقل من هذا العذاب الشهي إلى الخلق الروائي الذي لا يقل معاناة. صدرت الرواية الأولى له بعنوان «المساكين» التي حملها صديقه إلى الشاعر «نيكراسوف» الذي تردد في البداية في قراءتها لانشغاله وعدم يقينه بنص روائي لكاتب مغمور ومجهول، ثم تنازل لقراءة عشر صفحات فقط، وقال «بعد عشر صفحات، سنرى ماذا تساوي هذه الرواية» ثم لم يستطع أن يتوقف حتى نهاية الرواية، ثم صاح «إنه عمل عبقري، عبقري. لقد ولد لنا غوغول جديد»! يقصد الأديب نيقولاي غوغول الذي يعد من آباء الأدب الروسي.

تأثر دوستفيسكي بالفكر الليبرالي الاشتراكي وانضم إلى «جماعة بيترافيشسكي» السرية المنادية للثورة والتغيير في روسيا القيصرية.

ألقي القبض عليه وسجن وحكم عليه بالإعدام. سيق في أحد أيام الشتاء الباردة بسانت بطرسبيرج إلى ساحة الإعدام حيث اصطف الجنود ببنادقهم استعدادا لتنفيذ حكم الإعدام. تلك اللحظات العصيبة من حياته وصفها بكل دقة في روايته «الأبله» وعندها بدأ أحد الجنرالات بقراءة أحكام الإعدام، وبدأ الجنود في تلقيم بنادقهم استعدادا لتنفيذ الحكم، ساد صمت عظيم للحظات.

في تلك اللحظة انتفض دوستوفيسكي كأنه استيقظ من حلم وانتابه خوف عظيم عبر عنه فيما بعد «وماذا لو لم أمت؟ وإذا ردت لي الحياة؟ فيا له من خلود! كل هذا يمكن أن يحدث لي عند ذلك! ربما يمكنني أن أحول كل دقيقة إلى قرن».

وتقدم الجنرال من جديد وقرأ وهو يتعلثم قرار العفو «المجرمون الذين استحقوا عقوبة الإعدام، حسب نصوص القانون نفسها، منحوا العفو بفضل رحمة صاحب الجلالة، التي ليس لها حدود». تم استبدال حكم الإعدام بالنفي إلى سيبيريا مع السجن والأشغال الشاقة. سقطت الفرحة على دوستويفسكي كما عبر عنها بعد 20 عاما «إني لا أذكر يوما شعرت فيه بمثل تلك السعادة».

تلك هي الأحداث التي جعلت الكاتب العظيم ينفى إلى سيبريا ليبدأ فيها قصة ولادته الثانية التي خلقت منه أحد أعظم الروائيين في التاريخ وأعظمهم في وصف وتحليل ظلال النفس البشرية. حتى إن فرويد نفسه قال عنه إنه معلم كبير في علم النفس، وإنه تعلم سلوك النفس البشرية منه.