الرأي

المهارات ستبتلع الشهادات!

عبدالله الأعرج
في عام 2012 أو قريبا من ذلك استدعيت سباكا إنجليزيا يكاد ينصهر من شدة اكفهراره وحدة مزاجه، ليصلح لنا مشكلة منزلية يستحيل لشخص بمهارتي المتواضعة أن يتعاطى معها.

ولأننا قوم نحب الحديث ونأنس بمشاركة التاريخ والجغرافيا وعلم المجتمع مع من عرفنا ومن لم نعرف، فقد شرعت في حديث ماتع شبه أكاديمي (من طرف واحد) مع السباك الحاذق، ولم يبدد جمال السرد سوى تعليق صاحبي بأن راتبه السنوي أفضل مما يتقاضاه بروفيسوري الذي غزا المشيب رأسه في كل اتجاه!

وبعد أن غادر صاحبي قلت متندرا لآل بيتي إن هذا الرجل الأحمق يقول إنه يتقاضى أكثر من أساتذتنا في الجامعة الإنجليزية، ليأتي الرد الحاسم بعد أيام من أستاذي الجامعي بأنه يتمنى لو أنه كان مهنيا لعدة اعتبارات، منها المورد المالي المرتفع Income لأهل المهن والمهارات!

علمت بعدها أن السباك الإنجليزي يتقاضى في المتوسط المجحف نحو 4 آلاف جنية إسترليني شهريا، أي ما يعادل حينها 20 ألف ريال، ويتقاضى زميله الأمريكي أكثر من 6 آلاف دولار، وعليكم تكملة الحساب!

لم تكن القصة مسألة دخل مادي فحسب، بل تعدت ذلك إلى احترام المجتمع الكبير وتقديره التام للممتهنين apprentices والماهرين skillful والمنتمين للقطاع المهني vocational sector بحيث أضحت دور التدريب بعد المرحلة الثانوية في أوروبا تستقطب عددا أكبر من المتجهين إلى الكليات النظرية sixth form college في معظم البلدان المتقدمة، بل إن عدد المعاهد التقنية في فنلندا - التي يتغنى بها العالم تعليميا وتدريبيا - أضعاف عدد الجامعات.

ولأن المهارات تشيد المحسوسات وتحقق مفهوم الإنجاز الماثل للعيان، فإن العالم أجمع أصبح متجها نحو تكريس ميزانيات جبارة للتدريب الجيد والتأهيل المقنع، طمعا في الحصول على المخرج الكفء الذي يعمر الأوطان ويعزز حياة الإنسان.

دونالد ترمب الرئيس الأمريكي الحالي ذو الخلفية التجارية الكبيرة أدرك هذا أيضا، وأصدر قرارا تنفيذيا للحكومة الفيدرالية الجمعة الماضي يشجع فيه قطاعات التوظيف الحكومية على استقطاب الممارسين ذوي المهارات قبل أقرانهم من حملة الشهادات، ولا سيما أن هذا التوجه يسير بتناغم مع الاحتياج الأمريكي والعالمي لجيل جديد من المهاريين في قطاعات تجاوزت المهن المعتادة من سباكة ونجارة ولحام وحدادة وغيرها إلى مهن تقنية ولوجستية تواكب هذا العالم الذي يتغير بجنون ويتسابق نحو فنون لن تخلد إلا بالمهاريين!

لذا فإن الجامعات التي تتجه نحو الدراسات النظرية (غير التطبيقية) التي لا تشجع الأبحاث القابلة للتطبيق ستكون بتقديري في مأزق وربما فجوة علمية إن لم تخلق لنفسها نطاقا تطبيقيا لكل علم نظري، وذلك أقل ما تواجه به ثورة المهارات الحالية!

الأبحاث النظرية والعلمية المتواضعة تطبيقيا والموصلة لترقيات علمية فحسب ستخبو بتقديري أمام الدبلومات التطبيقية اليدوية والمهارية التي تلامس الواقع، كما هو في العالم الحقيقي، وحينها سينشأ جيل جديد من الطلاب وأرباب العمل الذين يضعون المهارة المكتسبة بحرفية متقدمة مكان الشهادة منزوعة الدسم من أي قدرات!

مجمل القول إن سنة الله في تبدل الأولويات الحياتية ماضية، وإننا اليوم بكوفيد - 19 أو بدونه سنكون أكثر صلابة حين نواجه الحياة العصرية بالمهن المتقنة والتدريب الأمثل والمهارات الأدق لنصنع الأوطان كما يليق بها أن تُصنع، ونعمر الأرض كما استخلفنا الله فيها، وسنحسن صنعا حين نكتفي بما غرسناه في أسرنا من الدعايات للشهادات والنيل من المهارات، فالأخيرة دون أدنى شك آتية!

dralaaraj@