الرأي

نطاقات المعرفة المحدودة

فهد عبدالله
في قصة مشهورة وطريفة نسبت إلى ماري إنطوانيت في القرن السابع عشر، وبعضهم نسبها لإحدى النبيلات المترفات غير المعروفات، بأنه عندما قيل لها بأن هناك بعض الفلاحين مضى عليهم أسبوع لم يأكلوا خبزا، فقالت: لماذا لا يأكلون الكيك؟

وبغض النظر عن مدى صحة المقولة أو نسبتها إلا أن هذه القصة تعبر عن أن مفهوم الفقر لم يكن ضمن نطاقات المعرفة لدى هذه المرأة المترفة، والذي بالتأكيد جعل من تصرفها الذي يتندر به حتى يومنا هذا يبين حقيقة في غاية الأهمية، هي أن المدخلات المعرفية والتصور الصحيح للأمور يقودان إلى المخرجات الصحيحة، وأن الحكم عن شيء بشكل دقيق وصحيح فرع عن تصوره بشكل دقيق وصحيح أيضا.

كثير من الحوارات التي نمر بها وكذلك المراسلات، سواء على نطاق وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى نطاق الأعمال، والتي نجد فيها أحيانا نبرة للاختلاف ربما مرتفعة وذات تباين في المخرجات والتوقعات، وعندما تحلل الأمور في وقت يملؤه الهدوء والسكينة؛ تجد أن جذر المشكل الأساسي فيها يقع حول الاختلاف في النطاقات المعرفية أو التصورات المختلفة للمشكلة أو الموضوع، وهنا تظهر الأهمية القصوى للابتداء بتحرير المفاهيم وتوحيد الفهم تجاه المشكلات قبل الشروع في تداولات الحلول ومناقشاتها، ففهم المشكلة من قبل المعنين بشكل واضح فعلا هو نصف الحل.

وقد ينسحب هذا الأمر ليس على حيز المشاكل وحلولها فحسب، وإنما في النظر إلى الحياة والموجودات من حولنا، فالنظر إلى الأمور والتعامل معها بشكل عام من حيز معرفي محدود يفقد الإنسان خيارات واسعة، بإمكانها أن تضيف له كثيرا في تحسين مستوى جودة الحياة، كالذي يمتلك جهازا ذكيا مثلا فيه عشرات المميزات المفيدة، ويستخدمه في المكالمات الصوتية فحسب، بسبب محدودية المعرفة حول المزايا الأخرى، السؤال المهم الذي قد يلهمنا جميعا وأترك للخيال جمع التصورات حوله: ماذا عن الأمور غير الحسية؟ كيف يمكن أن تؤثر فيها محدودية نطاقات المعرفة؟

المحدودية في نطاقات المعرفة ليس المقصود بها كمّ المعلومات وصحتها فحسب، وإنما أيضا تنوع مصادر المعلومة والفهم، فالانتماء لنوع موجه من المعلومات يحجب النظر والعقل عن مساحات مترامية الأطراف من المعرفة التي قد تجعل التناول العقلي للمعارف والأحداث بشكل شمولي ومتزن ويميل كثيرا إلى النضج.

عشرات التجارب التي تقرؤها من هنا وهناك لكثير من العقول وأصحاب التجارب المعرفية التي فضفضت عن أهمية تنوع المعارف وعدم الاعتماد على أحادية المصدر وأهمية نزعة التنوع المعرفي، كالذي مثلا يرفض فكرة عندما تكون مجردة عن قائلها، وبمجرد معرفة صاحبها يقتنع بها أو يحاكم المعلومة والرأي بناء على ذائقة الانتماء لديه.

كمثال واضح جدا لهذه المسألة التي بالتأكيد تمر بشكل أو بآخر على كل منا، خاصة في عصر القرية الصغيرة والعجلة المعرفية المتسارعة، عندما تنتقل من مجتمع الأسرة إلى مجتمع المدرسة والجامعة ومن ثم إلى مجتمع العمل، وكذلك السفر وتكوين العلاقات الجديدة؛ ستجد أن هناك عملية وإن لم تكن واضحة بالعين المجردة في حيازة أفكار ومعارف وعادات واعتقادات جديدة، وتراجع بعض المكنونات القديمة، ولولا هذا التنوع الجبري الذي فرضته تدابير القدر لما كانت هذه الحيازة وذلك التراجع، وهذا الأمر يوهج أهمية التنوع الاختياري.

نطاقات المعرفة المحدودة قد تكون سببا ونتيجة للمعارف الأولية التي أحاطت بنا، وليس في ذلك تثريب، لأنها سنة الله في الخلق في تدرج المعرفة والإدراك لدى الإنسان. الإشكال الذي قد يحدث أن تشكل تلك النطاقات المحدودة سقفا غير قابل للتزحزح، وتقلل من سماحية تجاوز النظر إلى المعارف الأخرى، فضلا عن فكرة تكبيل العقل بالسياجات التي لا تتناسب مع طبيعته في طلاقة التفكير والتفكر.

fahdabdullahz@