الرأي

الكونفوشيسيون والمكيافيليون وابن خلدون

ياسر عمر سندي
أعتبر هذا المقال أداة كشف وتحليل وقياس، خاصة بعد جائحة كورونا، والتي قادتني إلى إجراء مقارنات فلسفية وفكرية عدة ماضية وحاضرة، أجد أنها رسمت الملامح الاجتماعية الحالية للشعوب والدول.

تحركت المجتمعات بتوجيه من أشخاص ورموز يمثلون قوة المعرفة وعمق الفهم وسرعة الاستجابة وترجمة الإدراك للتأثير في الغير، بعمليات يطلق عليها في علم النفس المعرفي «العمليات المعرفية العقلية العليا»، وهي موجودة بنسب متفاوتة، وأقل في الإنسان العادي، كي تساعده على رسم النطاق المكاني، واستيعاب الحيز النفسي مع الآخرين، وإضافة إلى ذلك، فإن هنالك أشخاصا يضاف إلى عملياتهم صفة مساعدة خارج المساحة العقلية، وتتركز في المساحة النفسية والجسمية، والتي يطلق عليها «الجاذبية الخاصة» أو «الكاريزما»، وبسببها يستحوذ هؤلاء الكارزميون ويؤثرون بما يحملونه من الخبرات المعرفية والطلاقة اللسانية، كونهم مفوهين بطبيعتهم ومتمكنين بقدراتهم من عقول وقلوب العامة آنذاك، واستطاعوا بكل سهولة تشكيل الرأي العام.

ومن هذه الأسماء التي استطاعت أن تستحوذ على العقل الجمعي وتؤثر فيه، وشكلت الآراء والطرائق والمذاهب والاستراتيجيات الفيلسوف الروحاني الصيني «كونفوشيوس»، والمفكر السياسي الإيطالي «مكيافيلي»، وعالم الاجتماع العربي «ابن خلدون»، وهنا قد ألجأ إلى المقارنة الفعلية بين ثلاث أفكار: شرقية وغربية وعربية، توصلت ببعض العلوم المستحدثة إلى خلق نقلة فكرية ونوعية، مثل الفلسفة والاقتصاد والسياسة والإدارة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وجميعها من العلوم والآداب الإنسانية التي كونت المؤسسات الدولية، ورسمت خارطتها الجيوسياسية العالمية، من حيث حدودها ومواقعها الجغرافية وطريقة تعاملاتها الداخلية والخارجية.

المعلم كونفوشيوس الصيني ولد قبل الميلاد بمئات السنين، وصب أخلاقه ومعتقداته في قواعد عدة، واعتمد في ذلك على المدركات العقلية والعواطف النفسية للتعاملات البشرية، وصاغ هذه القواعد الأخلاقية بموجبات عدة تطبيقية، وما يقابلها من منهيات تحذيرية، أولا: الإنسانية من غير تعلم تعتبر حماقة في ممارستها مع الآخرين، وثانيا: الحكمة وعدم السعي إليها تعد ضربا من ضروب التسلية وضياع الوقت، وثالثا: الإخلاص والبعد عن الاستشعار به يعد تبريرا للتعدي على الغير، ورابعا: الحق دون دراية ومعرفة ينقلك إلى التعصب الأعمى، وخامسا: الشجاعة دون فهم تعد تهورا، وسادسا: الإصرار والعزيمة دون معرفة تقودان للفوضى العارمة. وهذه منتجات الفلسفة الكونفوشيوسية التي غرسها في طلبته وجيله وشعبه وبني جلدته، حيث لاقت رواجا كبيرا، وتبنتها دول الشرق الآسيوي، فكل فعل يلزمه ما يكبح جماحه ويزيد من أثره، وهذه هي السلوكيات الفلسفية بين الأفراد والمجتمع ككل لكونفوشيوس.

أما مكيافيلي الدبلوماسي والإداري المخضرم فقد نقل تجربته وفكره في عصر النهضة، أي بعد معاناة الظلام الدامس والجهل الطامس آنذاك على الدول الأوروبية ككل، حيث ورث مكيافيلي ما أفرزته الحضارة الرومانية من حكمها ونظامها، ونادى بنظريات عديدة، من أبرزها «الغاية تبرر الوسيلة»، ويرى أن تكون ذا أخلاق عالية ووضوح كاف وفضيلة متأصلة لا يكفيك ذلك كي تستمر في الحياة، فالممارسات البشرية تحتاج إلى القليل من المراوغة والمداهنة والقوة أحيانا والجبروت واللا أخلاق، حتى تصل إلى هدفك المنشود، وتتربع وتستحوذ على قلوب وعقول ومشاعر وعواطف الآخرين وتؤثر في نفسياتهم وتسخرهم لتنفيذ مصالحك، وفي حال انتفاعك تتخلص منهم على الفور.

ولقي فكره رواجا وقبولا عاما من غالبية الشعوب والمجتمعات الغربية حكاما وشعوبا، وتعززت فكرته تدريجيا وتبلورت إلى مفهوم سياسي براغماتي جشع وإمبريالي توسعي أعمى ومادي مقيت، ألغى التعامل الإنساني وأبرز المصالح البشرية، فصديق الأمس عدو اليوم وعدو الأمس صديق اليوم، بحسب ما يقدم هو وأتلقى أنا.

والعمران البشري وتأسيسه كعلم قائم بحد ذاته كان على يد المؤرخ والاقتصادي والأب الروحي لعلم الاجتماع ابن خلدون، حيث أسس فكره على الدمج والشمولية بين الفلسفة وعلم الأخلاق والمنطق، والعلوم الدينية والدنيوية، وتطوير علم التاريخ أيضا، وأوجد له صنعة وحبكة بإدخال التجريب والمقارنة التاريخية، والربط الدلالي للأحداث المنطقية والتحليلية، واستند عليه كونه إحدى أدوات تكوين المجتمعات الحضرية، ونتاجا للظواهر الاجتماعية، حسبما ورد في كتابه (مقدمة ابن خلدون)، بأن أي ظاهرة حدثت في مجتمع ما لها بالتأكيد أسبابها وظروفها، فجميعها تتأثر بالعوامل الاقتصادية كالعرض والطلب، والديموغرافية كالطبيعة السكانية، والطبوغرافية للأرض والمناخ، والأنثروبولوجية كعلم الإنسان والسلالات للمجتمعات وطبيعتها البدوية والحضرية، وكيفية تشكل العقول الجمعية.

وأغنى العلوم الاجتماعية بأفكاره، خاصة التربوية غير المسبوقة، مثل تقسيم العلوم إلى العقلية والنقلية، واستراتيجية التدرج في تعليم الصغار بكيفية البدء بالسهل وصولا للصعب، والتعليم بالنمذجة الفعلية، ومن ثم التوجيهات اللفظية، وتعليم الأطفال بعض السور القرآنية والأشعار حتى يستدرك عقليا، ويفهم ومن ثم يخزن ذلك لحفظه واسترجاعه عند بلوغه سن الرشد.

هذه المقارنات: المعتقدات الروحانية الشرقية، والإفرازات الانتهازية الغربية، والإضاءات للأفكار الإنسانية العربية؛ جميعها رسمت المجتمعات البشرية، وعكست التأثر والتأثير من الموروث الفلسفي الاجتماعي المتواتر للشعوب في تعاطيها مع الأزمات وكيف تكونت أولوية التعاملات.

Yos123Omar@