الرأي

حرب العاجز وانتظار الأمل

محمد الأحمدي
بدأت قصة هذا المقال حينما وقع تحت يدي كتاب: (حرب العاجز: سيرة عائد، سيرة بلد) لزهير الجزائري الذي يتناول فيه واقع العراق المرير بعد عودته إليه من المنفى عقب 20 سنة عاش معظمها في لندن.

الصحفي المصور الذي صور ما رآه بقلمه المرصع بالإحساس، والمطرز باللغة التفاعلية التي احتضنت عبارات الكتاب من كل جانب. نقل بالكلمة ما قد تعجز نقله الكاميرا الحديثة، لربطه بين الماضي وهول ما رأته عيناه الشاخصتان بعد صدمة أذنه من سماع الأخبار التي تنقل الأحداث عبر الأثير في منفاه.

الكتاب مليء بالتحولات والمشاهد العجيبة التي يعكسها قلم الكاتب، فتشم رائحة الألم من حبره، وتستنشق هوى الموت مما يلفظه على الورق، وتلتحف أكفان المغامرة لما يحيط به من مخاطر، مليء بتوثيق حالة البؤس وفقدان الأمل ونتن الصراع، وتناثر أشلاء الفكر قبل الجسد حقيقة واقعة! وهكذا هو الواقع المرير إذا كُتب فَمُزج بألم يعتصر الفؤاد وتوشح بظلم طاغ على الإنسان، فإنه لا بد أن يؤذي المشاعر ولو بعد حين.

وقفتي مع الكتاب في موطن سمعت ذات الفكرة في سياق تعلم اللغة الإنجليزية ولكني لم أسمعها في سياق العيش والحياة. فحينما حلت بي الرحال لتعلم اللغة في إنجلترا، تلقيت منشورات ترشدني لسبل تطوير مهارات اللغة ومن ضمنها التبادل اللغوي. فهناك طلبة من مختلف الجنسيات يرغبون تعلم اللغة العربية دون مقابل، فالمال هنا أخر شيء يقدم مقابل أن نتبادل ربما دقائق أنال ذات النصيب من اللغة التي أود ممارستها مع المستفيد، لكن سياقات الحرب تُغير المفاهيم، وتبدل ما يتم في ساعة الرخاء، فكما غيرت البهجة إلى أسى، والمسرور إلى محزون، والمرتاح إلى مهموم مغموم، فليس بكثير عليها أن تبدل تبادل اللغات، التي لا يراودني شك بمثل هذه الفكرة حينما كانت عاصمة الرشيد لؤلؤه تتلألأ في سماء الحضارة، إلى تبادل المنازل خوفا على الروح من أذى الأشرار.

أحياء بغداد لم تنل من مسمياتها في روايته سوى أضدادها، فالعامرية تعج بالدمار والخراب، وحي الحرية يقبع الناس خوفا على أنفسهم في أقبيته دون حرية، أما بقية الحال فلا يسر وصفه. فقد ابتلي الناس في هذا العصر بآفة تصنيف بعضهم ضمن أحزاب أو ألوان، وحتى الأعراق أخذت نصيبها من القسمة. وليت التصنيف بقي دون تفضيل فصيل على آخر، ولكن ألف التفضيل تميل بشوكة الميزان إلى كفة فتطغى على أخرى، فينقلب الميزان بكفتيه وما حوتا مكبا على وجهه، فلا شمس أشرقت ولا قمر بدا.

هُجرت عائلة كاتبنا من حي العامرية إلى حي الدولعي، وهنا بدأت رواية تبادل المنازل بين عائلتين تختلفان في الفكر، وتجتمعان في الدم والولاء وحب الوطن، فتعقدان صفقة تبادل المنزلين لأجل غير مسمى. فدفء المسكن أولى من هجير العراء بعدما أعيدت ديموغرافيا الأحياء لتخلو من التعدد الفكري والتنوع الاجتماعي الذي يسود المجتمعات فيصنع الحياة، ويستحث الفكر على التأمل والتدبر في شؤون هذا الكون.

جرعة الألم التي سطرها الراوي في سيرته لقاح مضاد لكل متأمل فطن ليحافظ على وطنه. فينبوع الأمل المتدفق يفيض في مهبط الوحي ومهوى أفئدة المؤمنين، وسحابة الحب تظلل كل شبر على تراب هذه اللؤلؤة المتلألئة. يحيط بها الألم وهي حالمة مستبشرة، تتحدى نفسها لتبني لبنة خير للبشرية. فطهرها النقي وعبق تراثها منحة ربانية. تنفح عنها أيادي الأوفياء، وتصون حدودها دماء الأنقياء وتذود عنها أنفس الشرفاء.

المواهب المتدفقة تسخّر لحماية الدين والوطن والأمن والعدل والعِرْض والصحة، فتستوطن بين قلب ورئتي محبيها. فيا وطنا تظلّل بقيادة يندر مثيلها، وتطيّب بنفح سماوي باق محفوظ من كل تحريف، واتشح بعبق متمازج يفوق وصف الواصف، واصل نحو المعالي فأنت نعم الأوطان ومحبوك بحر متدفق عبر الأزمان، يحفظك الرحمن فما القياس بالأحرف عيب، ولا البوح بالحب شتيمة.

alahmadim2010@