الرأي

الدكتوراه.. رحلة شوق وشقاء

عبدالله الأعرج
كنت أتوقع وأنا طالب في مرحلة البكالوريوس أن كتابة السير أيا كانت (ذاتية، علمية، تاريخية) حكر على المشاهير دون غيرهم أو هكذا خُيّل إلي. ومع تعاقب الأيام وتتابعها تيقنت أن لدى كل نفس على هذه الأرض ما يستحق أن يدون، بصرف النظر عمن سيقرؤه ولماذا سيقرؤه؟

اهتديت أيضا إلى أن كتابة السير لا تنبثق من منطلق دعائي وترويج للكاتب بقدر ما هي امتنان للذات، وشكر للروح والنفس اللتين جاهدتا مع الجسد حق الجهاد لينال صاحب كل هذا ما أراد له الله من مكاسب الحياة ومصاعبها.

وحين أتممت دراسة الدكتوراه كان هذا الفهم هو الموقد الذي طهوت عليه 144 صفحة و12 حدوتة، وأسميت كل هذا (الدكتوراه: رحلة شوق وشقاء)، وكنت أرد على من كان يسألني عن سبب التسمية بقول واحد، وهو أن الدراسات العليا هي الشقاء الذي نهرول إليه بمنتهى الشوق!

كانت آراء المحبين متباينة حول التسمية، فمنهم من قال لي شخصيا لعلها «شفاء» بنقطة واحدة وليست «شقاء» بنقطتين، ومنهم من سأل عن سبب التسمية، ومنهم من أبدى أعجابه بها، وفي ظل كل هذه التباينات بقي الثابت الأوحد أن كاتب السيرة أقرب الناس إليها، وأعلم الناس بفصولها وأكثرهم تذوقا لأحداثها لذا فهو أجدر الخلق بتسميتها!

تعلمت من كتابة السير وأدب الترحال أن التوثيق والتدوين هما الحرز المتين، وأدركت في كل عام أقرأ فيه قصة الشوق والشقاء أنني لو لم أكتبها لنسيت كثيرا من تفاصيلها المختبئة التي وإن بدت شخصية لقارئها البعيد إلا أنها قطعا لكاتبها كيوم العيد!

تعلمت من كتابة السير أيضا أن الكاتب مدين لمجتمعه وناسه وأقرانه وذوي الاهتمامات المشابهة بشيء من الحق، ولا سيما حين يكتب عن رحلة علم هنا أو هناك، وهو الأمر الذي لم يخطئه فهمي وأنا أسترجع كلمات كثيرين ممن سألوني عن الكتاب وهم يمزجون السؤال ويربطونه بعبارات مثل: زكاة العلم ونقل التجربة واختصار الطريق وتحفيز المقبلين على قصص مشابهة!

تعلمت من كتابة السير - بعد بيع نسخ معدودة - أن كتب السير لا تباع لسبب بسيط، وهو أنك تقدم قصتك الشخصية لمن سيستمع لها بصرف النظر عن طبيعة القصة علمية كانت أو حياتية، ويكفي من كرم القارئ أنه سيقضي وقتا يستمع فيه لبوحك وشوقك وشقائك.

ولا أقل من أن تشكره على ذلك بإهدائه شيئا مما كان ذات يوم همّا!

ويبقى الدرس الخالد الذي تعلمته من كتابة السير أن سرد قصة سيرتك ومسيرتك هو خير ما تكافئ به روحك ونفسك وجسدك، هذا الثلاثي المهيب الذي عزف سيمفونية أيام وليال ليخرج هذا النغم الأصيل الذي أطربك وأمتع من حولك في الوقت نفسه، هذا الشكر المستحق لنفسك ولمن عاصر وعارك الرحلة معك بصبر لا يلين وأمل لا ينضب.. سلام على المسافرين في منعطفات الحياة حين غادروا، وسلام عليهم يوم يرجعون.

dralaaraj@