الرأي

مجاز التمني وزهو الاستطاعة

بندر الزهراني
لماذا نتمنى ونحن نستطيع! هذا السؤال استفهامي مجازي، غرضه التقرير والإثبات، كما أوحت ظروفه الزمانية والمكانية، وهذا السؤال في الواقع لم يكن سؤالا مجردا بذاته، وإنما كان جوابا رد به الأمير خالد الفيصل على أحد الصحفيين عندما سأله كلمة في حفل افتتاح سكن أعضاء هيئة التدريس بجامعة الملك عبدالعزيز.

ولأن الأمير خالد إداري من طراز رفيع وذو خبرة واسعة امتدت لعشرات السنين، وهو الشاعر المحنك الذي ينتقي كلماته وعباراته بعناية فائقة، توقفت كثيرا عندما سمعت هذا الرد منه، وقلت لربما أننا فعلا أصبحنا نستطيع أن نحقق بأنفسنا كل ما نتمناه، وأن ما كان يدور في رأسي من هواجس الإخفاق، وتعثر الإنجاز، إنما هي ظنون محمودة، وهي في ذهني أنا وحدي فقط، ترقبا للكمال ورغبة في بلوغ مرتبة عالية من التفوق والإبهار.

وكنت عشية حفل الافتتاح قد كتبت مقالا مطولا، أناقش فيه مجموعة من البدائل الممكنة والمعقولة عن استخدام القرعة في توزيع الوحدات السكنية، لما للقرعة من سلبيات كثيرة ولعدم منطقيتها في مثل هذه الحالة، ولا سيما أن دراسة الاحتمالات وفرص الحظ واتخاذ القرارات تشغل حيزا واسعا من اهتماماتي الأكاديمية، وقد عرضت مسودة المقال على أحد الزملاء، على أن يعطيني رأيه متجردا فيما يقرؤه، وأن يستعجل في ذلك، لأنني أود نشر المقال بأسرع فرصة ممكنة، فلعل الأمير أو بعض مستشاريه يطلع على ما سجلته من ملاحظات وما عرضته من مقترحات، فيكون مقالي نافذة نقاش على هامش حفل الافتتاح، إلا أن الزميل عاتبني بلطف وقال شيئا ما معناه: إن الأخطاء مهما كانت أو بلغت ينبغي لنا أن نكون «ستر وغطا» للجامعة، ثم أرسلته لزميل آخر ليس له علاقة بالأمور الأكاديمية، فقال شيئا مشابها لما قاله الزميل الأول، وعندئذ قررت أن أحبس مقالي عن النشر برهة من الزمن، فلربما كنت مخطئا، ولربما تكشفت أشياء أكبر من القرعة التي «أهوجس» بها بحكم التخصص وفضول المعرفة.

وما بين مجاز التمني وزهو الاستطاعة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع «فيديو» أظهرت أضرارا متنوعة في عدد من الوحدات السكنية في إسكان الجامعة، مما جعل بعض الساكنين - و هم حدثاء عهد بها - يتذمرون ويلقون باللائمة على إدارة الإسكان تارة، وعلى المقاول المنفذ تارة أخرى، أو على الحظ العاثر تارات وتارات، وأيا كان المخطئ، ممن هم على رأس العمل أو ذهبوا أو تقاعدوا، وأيا كان حجم الخطأ، فلا بد أن نقف وقفة حازمة مع من أخطأ، سواء أكان ذلك سهوا أو تساهيا، أو كان عن قصد وتعمد لا سمح الله.

صحيح أننا لسنا مجتمعا ملائكيا لا يخطئ، ولسنا آلات الكترونية تعمل بدقة عالية ولا تخطئ إلا في ظروف معينة وبنسب ضئيلة جدا، لا طبعا، فنحن بشر واحتمال وقوع الخطأ عندما نعمل أمر وارد، وبعض الأخطاء مفيدة، خاصة تلك التي نتعلم منها، ونحذر من الوقوع فيها أو في مثلها، إلا أن هناك أخطاء لا يمكن قبولها أو السكوت عنها مهما كانت عقلانية المبررات ووجاهة الاعتذارات.

ولأن الأمنيات ليست من الخطايا والممنوعات، فإننا كنا نتمنى أن ننجح كل النجاح في هذا المشروع، ننجح في التخطيط وفي الإدارة وفي التنفيذ، ولا يمكن أن ننجح في واحدة منها دون أخرى، لأن النجاح شيء واحد لا يتجزأ، وكنا نتمنى أن ننجح كما تنجح أرامكو، وكما تنجح الشركات العالمية الكبرى، وكنا نتمنى أن نرى إسكانا نموذجيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، إسكان لا يماثله إسكان، طالما توفرت المادة وكانت الإرادة والطموح، ولكن ولأن الأمنيات كما ترون متعددة وإلى اليوم ما زالت قائمة، فإن تساؤل الأمير خالد يظل صحيحا وقائما كما هو، إلا أنه هذه المرة - من وجهة نظري - يتحول من استفهام مجازي إلى استفهام حقيقي، ومن غرض التقرير والإثبات إلى غرض الاستنكار والتعجب.

النجاح في أجزاء من العمل لا يعني كل النجاح، وكذلك الإخفاق في شيء منه لا يعني كل الإخفاق، وكما أن التمني قد يخرج عن معناه الأصلي إلى المجازي فإن الاستطاعة لا تتوقف عند معناها التقليدي وحسب، أي القدرة على الإنجاز، بل تتعدى ذلك إلى الثقة بالنفس وشجاعة الموقف وتحمل المسؤولية أيا كانت النتائج، وطالما أننا قادرون على التغيير وعازمون على التطوير، سواء في الإسكان الجامعي أو في غيره من المشروعات التطويرية، فلن يساورني الشك أبدا في أن الأمور ستتغير إلى الأحسن، وعلينا أن نصبر ونترقب ونتمنى، فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

وحتى لا أكون قاسيا كما قد يظلمني البعض، فأنا كاتب غيور، وناقد ودود، ومحلل حنون، ووطني حد الثمالة، دعوني أقل: إن الجامعة اليوم شعرت بما كنا نقوله من ملاحظات وندعو إليه من إصلاحات، فبدأت تسخير كل إمكاناتها ومواردها لتصحيح ما وقع منها من أخطاء، وهذا أمر جيد ويدعو للتفاؤل، ولولا أننا نراهن على نجاحها ونتطلع لتفوقها لما كانت محل النقد والعتب، ولولا أنها مصدر الفخر والاعتزاز، لما نالت مني كل هذا الود والحنان!

drbmaz@